لنُـقارن بين ثلاث كوارث إنسانية وقعت في هذا العالم خلال أقل من عامين: في مطلع عام 2009م وقعت عملية (الرصاص المصبوب) في قطاع (غزة) مخلفة 1300 قتيل و5000 جريح تقريبا. في مطلع عام 2010م وقع زلزال (هاييتي) مخلفا قرابة مئتي ألف قتيل، وثلاثمئة ألف جريح، ومليون مشرد. وفي يوليو/أغسطس الماضي كانت فيضانات باكستان التي خلفت (حتى الآن) 1800 قتيل، و21 مليون إنسان منكوب بالفيضان. في كل حالة من هذه أسهمت السعودية ماليا في إغاثة الضحايا، وهناك بعض الملاحظات المثيرة بخصوص طبيعة هذه الإسهامات. مثلا، تم تنظيم حملتين شعبيتين لإغاثة ضحايا القصف في غزة والفيضان في باكستان، جمعت حملة غزة قرابة 170 مليون ريال (مستقلة عن المعونات الرسمية الكبيرة والمستمرة)، بينما مثلت حصة تبرعات الأفراد والمؤسسات في حملة باكستان 100 مليون ريال (و300 مليون ريال معونة رسمية)؛ برغم أن المشكلة في غزة لم تكن مشكلة أموال بالدرجة الأولى كما هي الحالة في باكستان، وبرغم أن عدد الضحايا والمنكوبين في باكستان يفوق عدد ضحايا قطاع غزة، بل تتعذر المقارنة بينهما. أما في حالة هاييتي التي كانت مجزرة هائلة، فمن المثير ملاحظة أنهُ قد اكتـُـفي بالإسهام الحكومي في المساعدات الدولية الذي بلغ قرابة 187 مليون ريال (50 مليون دولار)، و لم تنظم حملة سعودية شعبية للإغاثة، بل إن تخيّل مشهد القنوات السعودية وهي تنظم (الحملة السعودية لإغاثة منكوبي هاييتي) يدخل في باب التصورات السوريالية. هذا لأنّ المنح محكومٌ في الذهنية الشعبية بمجموعة بديهيات تندر مقاربتها أو تفكيكها عقلانيا.

فمن الواضح أولا أن نوعية الكارثة تلعب دورا في تحفيز المانحين: ضحايا القصف والحصار يستدعون تعاطفا أكبر من ضحايا الكوارث الطبيعية حتى عندما يكون عددهم أكبر وآلامهم أعمق، هذه هي الحقيقة المؤسفة. القصف والحصار والبُعد السياسي للوضع يستولدان حالة من المواجهة النفسية مع (العدو) والتماهي مع الضحية، والتعاطف يفضي إلى الباقي، ولا مُشكلة في هذا، المشكلة هي في العجز عن استيلاد تعاطفٍ موازٍ لمآسٍ إنسانية لمجرد أنها لا تتضمن "مواجهة مع العدو"، كما توضح المقارنة بين حالتي غزة و باكستان أعلاه. أمرٌ آخر يتعلق بهويّة الضحية، فالتعاطف مع الضحية (العربية المسلمة) أكبر من التعاطف مع الضحية (المسلمة)، والتعاطف مع هذه الأخيرة أكبر من التعاطف مع الضحية (غير المسلمة)، أيضاً يمكن فهم هذا كمنحى بشري طبيعي في تناسب العاطفة مع درجة التشابه، لكن ما لا يمكن فهمه هي حالة الغياب التام للتعاطف والشعور بالمسؤولية تجاه منكوبي العالم طالما أن الكارثة تقع خارج الدائرة العربية ـ الإسلامية، وهاييتي هي المثال الأقرب. التبرع الحكومي لهاييتي لا يؤخذ بالحسبان هنا لأنني أبحث عن التعاطف الشعبي وتبرعات الأفراد. لا يمكن تفسير هذا بكونهِ استجابة لأمرٍ دينيّ، فالفتاوى واضحة في هذا ولا تمنع منح الصدقة لأيّ إنسان ما لم يكن عدواً محارباً. جزء آخر من (بديهيات المنح) في الذهنية الشعبية عالق في ما يتخيلهُ من أولويات: إذا كانت الكارثة في دولة غير إسلامية سيكون الاعتراض الشعبي التقليدي على المنح من خلال التساؤل عن إشباع حاجات العالم الإسلامي أولاً. إذا كانت الكارثة في دولة إسلامية فسيعترضها السؤال عن إشباع الحاجات العربية أولاً. وإذا كانت الكارثة عربية فسيكون هناك طوفان من الاعتراضات من بينها السؤال عن إشباع حاجات الداخل أولاً، والطريف هو أن (الحاجات) لا يمكن إشباعها بالكامل أبداً، ما يعني أن المنح لن يحدث أبداً بدوره. عبر هذه السلسلة يمكن رؤية أن هذه الأسئلة لا تهدف حقاً إلى موازنة الأوليات بقدر ما تعبّر عن رؤيةٍ عامة ناقدة لمعدلات المساعدات الخارجية الكبيرة ومتوجّسة من استئثار شعوبٍ أخرى ومنظماتٍ دولية على مقدّراتٍ مالية يحتاجها الداخل. مقارنة بسيطة هنا، بين إجمالي المساعدات الخارجية والمساهمات في الإغاثة العالمية الذي قدمته المملكة بين عاميّ 1973م ـ 2005م، ويبلغ قرابة 90 مليار دولار، في (32) عاماً (حسب موقع السفارة السعودية في الجزائر)؛ وعقدٍ واحد بحجم عقد "نظام تسخين المياه في جامعة الأميرة نورة" الذي يبلغ 11.5 مليار دولار، مقارنة بسيطة كهذه تكفي لإزاحة القلق حول المساعدات والمنح الخارجية... جانباً.

صحيح أن الدول الخليجية (الكويت، الإمارات، السعودية) تصنّف ضمن أكبر المانحين عالمياً حسب البنك الدولي، لكنهُ منحٌ حكوميّ تبطّنه لا مبالاة، أو انتقادات شعبية. هناكَ موقفٌ شعبيّ من المنح للآخرين، وهو ليس موقفاً جيداً بالمرّة. فيه مزيج من التعالي على العالم و التوجّس منه في آن. فنحن نشعر بأننا في دول مكتفية مالياً وآمنة نسبيّاً من الكوارث البيئية والحروب ومن غير الوارد أن نحتاج للإغاثة من بقية العالم؛ في ذات الوقت الذي نتوجّس (ونتبرّم) فيه من استغاثات هذا العالم التي لا تنقطع، بينما يتولّى بعض الكُتاب (الوطنيون) تعزيز هذا الموقف السطحي والمضطرب بمقالاتٍ توازي بين المساعدات والهدر الماليّ، وتتولى بعض التقارير الإخبارية في التلفزيونات العربية من الناحية الأخرى غمز المنظمات الدولية التي تعمل في المناطق المنكوبة بكونها تؤدّي خدماتٍ تجسسية، والمساعدات الأمريكية والأوروبية بكونها تهدف إلى السيطرة السياسية على البلد المنكوب، وفي ملاحظة جميلة لهذه المفارقة كتب خالد الحروب بعد زلزال هاييتي: عوضا عن أن يرتاح الناقدون لمنطق نقدهم فإن عليهم الدفاع عن نفوذهم وسياساتهم حتى عبر المساعدات الإنسانية، إن كان هذا الأمر يستفزهم حقاً.

أما في رأيي، فإن مفهوم المساعدات الإنسانية العامّ لدينا يتعرّض لاختبار مع كل كارثة عالمية جديدة، ويكشف في كل مرّة عن ذهنيّة "عالمثالثية" لا تليق، تعجز عن إدراك مسؤوليتها وإنسانيتها معاً.