من الغرابة واللامعقول والحصر والهواجس تنشأ شخصيات خليل الرز في روايته "بالتساوي" (دار الآداب، بيروت ـ 2014) فتتبدى في حالة مطاردة وإنتاج أفعال تستهلك الطاقة الجسدية والروحية. كأنما هي تتخبط في متاهة لا مخرج منها وتكتسي طابعاً تأبيدياً يتغذى بالتكرار وفي عوْد ليس من شيمته الاستنفاد؛ عربة غرزت إطاراتها في بقعة طينية وعبثاً تدور في المكان ذاته، فلا مسافة تقطع تشي بزحزحة ولا مساعدة تمتد للإنقاذ.

عالم مقوض بكائناته المنقوصة حتى العراء والمثلومة حتى التشويه، يرفع الروائي عنه الغطاء في بيان لا يركن إلى الأحداث أو التحولات في مسار صاعد بقدر ما هو غوص بعين داخلية تجوس في تربة التفاصيل بعدسة خلاقة لا تفوتها نأمة. تعمل في الباطن موطن الحركة والاختلال والأزمة. التأمل السيال والحفر المتأني والدقة الباهرة في رصد حمولات المشهد واستنطاق تفاصيله الميكروسكوبية، وتظهيرها على نحو يقول المأزق والتصدعات في تضاعفات متوالية تفصح عن العمقِ ودرجته وفي سخرية سوداء تذوب معها الحدود بين المتعين والذائب وما ينأى عن الواقع داخلاً في الخيال.

ينهض بناء الرواية على شخصيتي الصديقين "عبدالهادي" و"الأستاذ سميع" اللذين تجمع بينهما الدراسة الجامعية في دمشق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب رغم أن الثاني يكبر الأول بعشر سنوات بسبب الاشتغال بتدبير لقمة العيش إلى جوار الدراسة، ولهما تجربة لم تكتمل في العمل بمدينة بيروت بخاصة لعبدالهادي الذي يعيش حياة أقرب إلى الرفاه في كنف والده التاجر في سوق الحميدية، وأراد من هذه التجربة أن يعتمد على نفسه في تسيير أمور أمور حياته دون الاعتماد على أبيه وأن يخرج على سلطته التي ربطته زوجاً مستقبلياً منذ الثامنة من عمره بابنة الجار والصديق في التجارة. لم يصمد للعمل في ورشة الدهان وعاد ملتحفاً بعباءة الأب وعمله ويمارس كل صباح تبطلاً رصيفياً آلياً ورتيباً حيث خطواته تقطر في كل مقطع من الشوارع بنتاً أو امرأة؛ يتابعها بتلصص دون غاية أو أثر.. فيما الأستاذ سميع وجد مكانه في السلك الوظيفي بالإدارة العامة لاستنهاض التراث ينتظر يومه المواتي لاحتلال كرسي الرئاسة في إدارته باذلاً الطاعة والخنوع والاستجابة الآلية لصورة الموظف المنسحر بأداء الحكومة؛ يعظمه ويعليه إلى مرتبة المعجزات، ولا علاقة له بالعالم من حوله قاطعاً صلته بحبه القديم "ابتسام" طامراً أيضاً صلته بعائلته وقريته، ومكتفياً بصداقة عبدالهادي، ومنكفئاً في غرفة مستأجرة بشقة "السيدة بهيجة" يصلى هواجسه الليلية من غرباء متوحشين يريدون اقتحام الشقة ولا يسمع طرقاتهم العاتية سواه.

بعد عشر سنوات يأتي إلى عبدالهادي نداء "بديعة"، بمباركة الأسرة واستعدادها، لعقد القران المؤجل. وفي الوقت نفسه كان الأستاذ سميع في العمل يتلقى اتصالاً من "ابتسام" الغائبة تذكره بعيد ميلاده التاسع والأربعين وتدعوه إلى لقائها في مقهى النوفرة. بديعة وابتسام لم يظلا في صورتهما الأولى عند ميعة الصبا؛ اصطادهما الزمن في شبكته. نفخهما نفخاً وراكم عليهما شحوماً فتنفر العين لمرآهما. كما لو أنهما على هذه الصورة من القبح هما المرآة الكاشفة والمعادل الموضوعي لما آل عليه حال الصديقين عبدالهادي والأستاذ سميع. حينها تبدأ مغامرة الهروب، والتذكر أو التنكر في يومين، من هذه الوضعية البائسة اليائسة.

واقعة الخسران والانخساف من حياة لم يعيشاها كما ينبغي العيش. الصديقان ذاتان مطموستان بالانتهاك؛ الوالدي والوظيفي. خنعا لما يراد منهما وسارا في "النموذج" و"النسخ" المتكاثرة على سكة ـ من "الفراغ الهائل المجعد القديم" و"الرعب الأسود" ـ لا تنطق إلا عن الهباء وانعدام المعنى لوجودهما. التردي في هاوية تفغر فاها "بالتساوي" الممل والقاتل الذي ينشر شعوراً مغرقاً في العجز والضياع والإمحال. والمأساة أن شخصيتي عبدالهادي والأستاذ سميع، رغم اكتشاف النخر الذي يعمل في ذاتيهما ويقعان عليه في فصول الرواية وتنبئ عنه أفعالهما الهروبية المتوالية، لم تصححا موقفهما، بل آبتا إلى المقود والمذود يعتلفان عدمهما في ما يطلق عليه "كهفاً آمناً"؛ شرنقة لن تتأدى بهما إلى أجنحة أبداً.

* كاتب سعودي