"احتضاري"، نصوص قصصية لـ"محمد الراشدي" ضمن سلسلة الكتاب الأول"19" الصادرة عن النادي الأدبي بالرياض.

المجموعة تقع في 95 صفحة من القطع المتوسط، حملت نصوص المجموعة العناوين الآتية: (احتضاري، ومنها استقى القاص عنوان المجموعة، رائحة القطران، خفاض، حجارة، النافورة، السلالم، شوكة، لسان، تصريح دفن، انتظار، فطام، بقع)، وهى قصص حملت في ثنايا سطورها ثيمة متكررة للموت، وتدوين أدق تفاصيله، كما أن الرطوبة في المجموعة لم تأت بمعناها الجغرافي، وإنما بإسقاطات رمزية حيث دلف لداخل الذات الإنسانية مسجلاً دلالات الرطوبة، وما تحدثه من خلخلة في تكوينها، وكشف ما يفعله القهر والحزن فيها.

اشتغل الراشدي على إظهار التفاصيل الدقيقة، وكأنه يأخذ القارئ في رحلة سينمائية من خلال تصويره الحالة الجنائزية وتداعياتها، أثناء رسمه للصور المشهدية المتقنة الصياغة والدلالة في آن واحد.في نص "احتضاري" يرصد القاص بتوصيف دقيق اللحظات الأخيرة لرحيل الإنسان، وما يدور من حوارات من قبل المحتضر والمودعين، وصور ما يظهر من انطباع داخلي يحتل كامل تفاصيل الجسد، واستطاع نسج خيوط حكاياته ولملمتها ببراعة.

"الرعشة تسري عبر أطرافي المتخشبة، المطمورة برمضاء الحمى. صوت خافت يكسر صمت المكان (لحفوه، لحفوه).

رجال كثيرون لهم سحنة الحزن تكتظ بهم الغرفة الضيقة.. وجه أبي مواسم من أسى ودموع.. بكاؤه الخافت يشي بحتمية المصير"!

يأخذ القاص القارئ إلى بداية ولوج آدم للأرض، تجلى من خلال الاتكاء على التضمين المكثّف الدلالة، والتكلم بضمير الغائب، للهروب من سلطة ما، نصٌ قارب الواقع بسوداويته، مبيناً ما فيه من ظلم واستباحة للدماء، وعفن ورطوبة وقطران.. "قالوا له: لا تقرب هذه الشجرة. غمس فأسه في أقرب أغصانها لم يبقَ إلا الفأس. ونواح الريح. وأصداء صرخة قيل ظل يسمعها كل من تفيأ تلك الشجرة حيناً من الدهر قبل أن يكف البحث عن رجل ذاب كالسراب، وبقيت صرخته.. وفأس مغروسة بغصنٍ ينز منه سائل بلون الدم، ورائحة القطران".

ويؤكد القاص على كشف نوايا الإنسان من خلال تجليات السارد في رحلة التناص.

"نهشوا سيرته ذات يوم فقالوا: أبت أن تواري سوأته الأرض. كلما شقوا صدرها فاض في الأجداث قطران نتن الرائحة".

يسرد القاص بشكل خفي مصوراً حالة الإنسان وحقيقة الجسد العفنة بعد مغادرة الروح له، في نص "تصريح دفن"، يقول السارد بصوت خفي كي لا يتعدى صوته حيطان صدره فينكشف سره وتنهشه ألسنة العيون.

"ما جدوى أن يسكب كل هذا القدر من العطر فوق جسد هامد يوشك أن يكون جيفة بعد قليل، أتراهم يعطرونه من أجل دود المقابر، أم يحسبون أنهم يهيئونه لحفلة ما في دهاليز الأرض؟"في تصريح دفن لم يدفن جسد بالمعنى المادي ولكنه دفن مجموعة القيم، ليسير بلا هدى.

تجلى تكرارالثيمات (الموت- الحزن- الرطوبة) في كافة النصوص بدءاً من تكوين الغلاف الذي جاء على شكل زوبعة من اللون الأحمر والأسود والرمادي، وكأنه ترجمة واقعية لمحتوى نصوص المجموعة، أي من العتبة الأولى التي حملت عنوان المجموعة "احتضاري" مروراً بنصوص رائحة القطران، والموت المرحلي في نص "فطام".

يصرخ بلسان السارد ليفصح عما بداخله قائلاً:

"خرجت من المقبرة. أخرجت تصريح الدفن. قرأته للمرة الأخيرة.. مزقته.. نثرته مزعاً في الهواء.. ومضيت أسير.. لا أدري إلى أين؟"

إنها بداية رحلة ضياع الإنسان الذي أكد عليها الراشدي في تصريح دفن.