أفهم جيدا أن تطورات المرحلة تفرض نفسها، خاصة على صعيد ملاحقة الحداثة التقنية، التي لا أتورع عن القول إن كثيرا من معطياتها قد عطل أهدافا تربوية ومهارية كان من الواجب أن تتوفر في الناشئة، بل الأطفال على وجه التحديد، فلم يعد المدرك البصري ولا العقلي للطفل يتوافق مع خصائصه العمرية والنفسية في ظل خمول ملكة التخيل بفعل حضور المواد المرئية الجاهزة التي يتلقاها بكرة وعشيا على جهازه المحمول، دون أن يفكر ولو للحظة واحدة في إعمال خياله وخبراته لرسم صورة ذهنية ثم معلوماتية عما يحيط به من موجودات مادية أو تصورات مجردة، فمن أطفأ الشمعة المتوقدة في عقول أولادنا؟

في أحد المؤتمرات المعنية بأدب الطفل جمعتني إحدى الجلسات بأستاذة متخصصة في أدب الطفل وعمليات القراءة، وعجبت أيما عجب حين علمت أن طفلتيها اللتين لم تتجاوزا العاشرة أصبحتا قارئتين نهمتين ليس على مستوى قصص الأطفال فحسب، بل تجاوزتا ذلك إلى عيون الروايات من الأدب العالمي، ولما سألت عن الوسائل المعينة لهذه الأم المحظوظة حقا في جعل الطفلتين تحصلان على هذه المرتبة المتقدمة من القرائية المحترفة جاءني الجواب الذي يمثل العلة التي يعيشها أطفالنا وملايين الأطفال في عالمنا العربي، كان جوابها: ليس لدينا تلفاز ولم أشتر لهما أجهزة ذكية، وكنت أقرأ عليهما القصص منذ سنين الطفولة المبكرة بما يتناسب ومدركاتهما العقلية والنفسية، فتفتحتا كزهرتين على حبّ القراءة والانهماك في ملاحقة الجديد من الإصدارات حتى لقد صارتا تطلبان المزيد كلما علمتا بسفري إلى المؤتمرات في دول أخرى فلا أتردد في جلب ما يسد جوعهما القرائي مهما كان الثمن، وللعلم فالسيدة عربية الأرومة والنسب ومن دولة مجاورة وشقيقة.

لقد صرفنا جهدنا التربوي مع أبنائنا في الكسوة والترفيه والإطعام وإهمال ما يغني العقول والأفهام، يشاركنا في ذلك دور النشر التي تغافلت عن أدب الطفل ولم تعمل على تنميته وصقله عبر تشجيع كتّابه ورساميه على تقديم أفضل ما لديهم مما تنشده الأرواح الصغيرة القادرة على التشكل المميز إذا ما بذلنا -بصدق وحرص- ما يوازي الملَكَة المكنونة عند الأطفال، والشغف الدائم بالمعرفة والاكتساب المهاري ولهذا -فحتى حين يعلمه الله- لن يكون السؤال هو: ماذا يقرأ أطفالنا؟ أو كيف يقرؤون؟ بل يتصدر السؤال الأهم والأكثر خطورة: هل يقرأ أطفالنا؟ أرجو عزيزي القارئ أن تكتشف ذلك بنفسك بأن تصطحب أطفالك إلى إحدى المكتبات -دون أجهزتهم الذكية- وتطلب إليهم أن يتجولوا بين القصص فإما أن يختاروا طريقهم إلى المعرفة الحقة، أو يسارعوا بالعودة إلى براثن الأجهزة.