ضمن سوانح هذه الأيام المباركة، تطرق أسماعنا من الرحاب الطاهرة، نبرات صوتية تضخ توصيفها وكفاءتها التعبيرية لتنقل لنا المشاهد الروحية والجمالية، في انفعال يشي بالفرح الشفيف واللحظة المبهجة، تمرر خطابها الوصفي لأدق الصور المفعمة بالسرد الجاذب لمخيال المتلقي، والاستدلال المحكي بالوصف والتحليل، مما يذكي في دواخلنا فيض الحنين والغبطة والشوق السخي المتسلل في شغاف الروح، والأمنيات المعتقة والمرهفة والرغبات المكتظة بالتوق لزيارة هذه الديار الطاهرة، والعرصات المقدسة والفضاءات الفردوسية.
ولكن الكثير منا يجهل أو لا يعرف أول مذيع انطلق صوته داخل خيمة في عرفات، وبالتحديد قبل سبعين عاما تقريبا، إنه الإعلامي والأديب الراحل الأستاذ "هاشم يوسف الزواوي" كأول من ارتجل "هنا مكة المكرمة الإذاعة اللاسلكية للمملكة العربية السعودية"، ويروي -رحمه الله- قصة تأسيس الإذاعة كما جاء في مجلة "الإعلام والاتصال" قبل سنوات، حين تم تعيينه في وظيفة مدير شعبة الدعاية في مديرية الحج عام 1357. وفي السنة الثانية ذهب إلى مصر مع الشيخ عبدالله سليمان ووفد من المالية وزار الجميع "المعرض الزراعي المصري"، وكان أهم ما يشغلهم في الحج هو كيفية إيصال التائهين من الحجاج إلى مطوفيهم في عرفات ومنى، في أثناء وجودهم في المعرض الزراعي لاحظ الزواوي أن هناك ميكرفونا يذيع أوصاف الأطفال التائهين طالبا من أولياء أمورهم التوجه لاستلامهم، وهنا طرأ في ذهنه سؤال مهم: لماذا لا نستخدم هذه الإذاعة في الحج؟ ونذيع للمطوفين أسماء حجاجهم ليأتوا إلينا أو يبعثوا من يستلمهم؟ وعرض الفكرة على عبدالله سليمان الذي وافق على ذلك، وتم تأسيس الإذاعة في عرفة للحج وكان ذلك في عام 1358، وصدر بعدها أمر ملكي بتعيين الشيخ "أحمد الغزاوي" مديرا عاما للإذاعة، وفي تلك المرحلة كان الزواوي يعرف بـ"هاشم مايكرفون"، إذ كان يتعامل معه بشكل يثير الإعجاب وقد بدأت الإذاعة الخاصة بالحج تبث القرآن الكريم ويتلو فيها الشيخ الدروي وجميل آشي، إلى جانب أحاديث مرتجلة ووصف للحجيج وإذاعة للمطوفين لأخذ حجاجهم، من خلال أبراج خشبية فيها مذياعات ببطاريات جافة عليها حراسة، وقد التحق بالعمل الإذاعي الأساتذة الكبار: أحمد السباعي، حسن القرشي، طاهر زمخشري، أحمد فاسي، محسن باروم. عمل الزواوي في وظائف عدة في وزارة المالية والحج والشورى، ورأس تحرير صحيفة "أم القرى"، وأصدر "مجلة الحج"، وهو أول من وضع أجرا للكتّاب في الصحافة وبأمر رسمي، وذلك عام 1366.