الأصالة والمعاصرة.. التفكير في هاتين الكلمتين بشكل عميق قد يقود إلى جمع المتضادات، أو اصطناع التلفيقات مما يشوه أحدهما على حساب الآخر، أو يقود إلى صراع يعطل المعاصرة ويؤسطر الأصالة.

الأصالة ذات يوم، حين نشأتها كانت معاصرة، فكيف اكتسبت أصالتها إذا؟! هل اكتسبتها بشكل محايد وموضوعي وتجريبي يشبه الشكل الدائري للعجلة كأفضل شكل لها منذ اختراعها قبل سبعة آلاف سنة، وصولاً لإطار السيارة الحديثة؟! أم أن الأصالة اكتسبت اسمها لطوطم وجداني نعيشه، كتابو مقدس تجاه بقايا الآباء والأجداد الميتين وما تركوه لنا من بقاياهم الأنثربولوجية، على تنوعها كعبادة قديمة، بقيت آثارها الوجدانية حتى الآن؟ في تلك النوستالجيا الفارغة التي تستلبنا حرية الإرادة، ورغبة المكوث في جلباب الأولين، رغم أن العقلاء يقولون: "إكرام الميت دفنه".

هل الأصالة أن يصر الياباني على ارتداء ثياب أجداده في العمل كي لا ينهزم أمام حضارة القميص والبنطال، أم أن الأصالة اليابانية هي في تقاليد الأسرة المترابطة والتعاون البناء؟.

الأصالة الطبيعية - وحسب شرعية الزمن - تحمل في رحمها المعاصرة، لكن من حق الولادة أن تجهض أو تتعسر عندما يتم التشكيك في الزمن بدعوى "فساده أو أفضلية ما قبله"، وبذلك يتم التعامل مع الزمن ككتلة ماضوية واحدة يتم تمطيطها بالتخريج والتأصيل والقياس خوفاً من ضرورات القطيعة، فإن تيسرت الولادة بمواهب قيصرية نتفاجأ بالمولود مريضاً بالتوحد تجاه العالم من حوله، خائفاً وجلاً يبحث عن طوطم يجثو أمامه، ويمنع أي أحد الاقتراب منه، فليس له مثل أرواح الأقدمين وأقوالهم ترعاه وترشده.

الأصالة دليلها وجودنا نحن، إنها تتمثل فينا نحن دون الحاجة إلى أقنوم أو أيقونة نطوف حولها ونذود عنها فأس "إبراهيم عليه السلام" إنها مثل الكوجيتو "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، ولهذا علينا أن نصدق خليل الرحمن عندما قال: "اسألوهم إن كانوا ينطقون"، لكن السدنة سيشعلونها ناراً بل أخدوداً من جهنم خوفاً ممن يحرك أصنامهم، فهم يخافون انصراف جماهيرهم عن تراث الأولين الذين ظلوا عليه سنين عاكفين.

الأصالة نحن كتحدٍ يقول للحياة: لسنا رفات الماضي الميت، بل نحن ميلاد جديد، ميلاد لا يريد توثين التاريخ وتصنيمه ليكرر أخطاءه بإيمان "داعشي" أعمى، بل يستلهم العيوب بعين ثاقبة قبل الميزات، وما عدا ذلك فليس إلا تراتيل المؤرخين وحكايا القُصَّاص يتوارثها العرب منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم عن قاتل ومقتول في البسوس وداحس والجمل وصفين ومرج دابق وصولاً لأم المعارك وما بعدها.

الأصيل هو ما ننتجه في خدمة الإنسانية بصدق وما عداه لا يتجاوز التفاخر الساذج بدَلَّة القهوة المصنوعة في الهند، فهل الفخر بها أم بفعل عروة بن الورد؟! الذي عاش منافحاً عن الفقراء بأموال الأغنياء، دون أن يحتاج إلى "مهرجان مزايين الإبل" لإثبات الأصالة!؟! علماً أن أصالة عروة بن الورد نجد مثلها عند روبن هود في التراث الإنجليزي، فالأصالة ليست بصمة إصبع لا شبيه لها بين العالمين، كهوس شوفيني ساذج، بل تاريخ من الإبداع يتزعمه الأقوى والأذكى فيكابر عنه الأضعف والأغبى بدعوى "كراهية المحاكاة فلسنا قروداً في مسرح"، ولم يعلم المسكين أن أولى دروس التعلم كطفل حضاري يستلزم منه المحاكاة إن أراد توثباً وسبقاً، لا تنفُجَّاً كتنفج المراهق، يريد رشد الكبار، ولمَّا يتقن دروس الطفولة كما يجب!!.

"الأصالة والمعاصرة" عبارة فيها من تطييب خواطر الدهماء أكثر مما فيها من ترابط منطقي، فالرسول الكريم لبس الإزار والرداء، والعمامة كانت تيجان العرب، فهل نلقي بالشماغ والغترة والثوب بحثاً عن أصالة نختزلها في الهندام، أم نعي أن الأصالة وجودنا وفق معطيات زمننا، لنصنع فيه معاصرة تحقق لنا وللإنسانية ممن حولنا النفع باتجاه الحق والخير والجمال، فاللبس الطبي الخاص بالأطباء والممرضين، نراه على شباب يطببون بني الإنسانية، ويسهرون على رعايتهم، لا يفرقون بين أحمر أو أصفر، يعد عند المصلحين خيرا من مئات الأقمشة الغالية تطارد موضة الأصالة في محراب التراث، ومثلها خوذة المهندس وفرهول التقني في المصنع... الخ، فتلك هي الأصالة، إذ تغرس روحك وتاريخك في زمنك كحضارة تعنيك، منفصلة عن عجزك الذي تستره برقاع قديمة تقول: "كان آباؤنا...." وآباؤنا بكل تاريخ الرقاع الذي نحفظه عنهم، كانوا ينشغلون أحياناً بحك بعض القمل وراء شحمة آذانهم، لتمضي أيامهم مستجمرين بغير جمر.

اليابان بأصالتها لم يفسدها لبس البنطال، إذ انشغلت بالمقاصد والمعاني الإنسانية للحضارة، وغيرها انشغل بضروراته الكبرى في اللباس هل هو دون الكعب أم فوق الكعب؟! ما زال الشرق شرقا والغرب غربا، رغم أن إبراهيم وآله هم أبناء الشرق، إلا أن تعاليم بعض آله ارتحلت لتكون بيد الغرب، فتخلق أصالتها الخاصة عبر ماكس فيبر إذ اختزلها في "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".

قد يقال: إن المهندس والطبيب والتقني عاشوا المعاصرة، إذ أصبحوا بهذه المهنة، فأقول: لا يمكن أن يعيشوا المعاصرة، فمشوارها أطول من الشكلانية والتعلم التقني والفني، فكل ما فعلوه بحصولهم على هذه المهارات الوظيفية أن أصبحوا أصيلين فيها كممارسة لم تتغلغل في وجدانهم كمصير حياة مشترك، ولن يصبحوا معاصرين لواقع حياتهم وأصيلين فيه إلا مع التقادم الزمني بهوية خاصة تعنيهم، فتجمعهم في مشترك حياتي واحد كرابطة أطباء أو نقابة مهندسين، يستبدلون بها رابطتهم القديمة لما قبل الدولة الحديثة، وإلا فلن يكونوا معاصرين، فبمجرد أن يمسكوا منصباً، سيرمون كل ما عرفوه وراء ظهورهم، ليستعيدوا كامل حمولتهم القديمة عن ما قبل الدولة، وتحت مبررات الأصالة والولاء لها، لتضيع المواطنة كضمير، وتضيع النهضة الحضارية كهدف.

ولن تتأكد المعاصرة الأصيلة، ما لم تتوافر مراكز دراسات وأبحاث يملؤها شباب وخبراء ممن انتهت علاقتهم بالوظيفة الحكومية، في مختلف التخصصات، ليضيفوا لهم كل يوم اختراعاً واكتشافاً في العلوم الطبيعية، أو مناهج فكرية جديدة في العلوم الإنسانية، وبغير هذا ليست هناك معاصرة، فالمعاصرة معناها روح العصر وقد تمثلناها في حياتنا، كمنافسين ومشاركين في العطاء الإنساني، دون الانشغال بعرابي "وضع العصا في العجلة".

"الأصالة والمعاصرة" معادلة بسيطة جداً، لا تحتمل كل ما يثار حولها من لغط في وطننا العربي الكبير، بين يسار ويمين، لكنه لغط يصرفنا فقط عن حقيقة اللغط نفسه، فبين هاتين الكلمتين "الأصالة والمعاصرة" يوجد ميدان رحب لصراع الأجيال، وصراع القوى السياسية، وصراع الأقطاب الفكرية، وصراع الطبقات، كل هذه الصراعات تعيش أزمانها بين مسحوق يريد الفرار من مطرقة الاستبداد وسندان الجهل والفقر والمرض، وبين قوي يخاف انقلاب الجوعى عليه، والجوع مفردة ممتدة من الجوع الغذائي وصولاً لجوع السلطة عبر أثافي "المنصب والمال والشهرة".

هل احتاجت بريطانيا بتراثها العريق أن تمر بأزمات فرنسا وثورتها القاسية؟ لا... بل حفظت أصالتها عبر معرفتها لموقعها من المعاصرة، فتخلت عن كثير من حذلقات الأصالة التي تجاوزها الزمن، دون الحاجة لثورة فرنسية تشنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس، عبر روبسبيير جديد.

بريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس تترك الأسكتلنديين ليقرروا تاريخهم وجغرافيتهم عبر صندوق الاقتراع، وقد اختاروا، فكانت الأصالة عند الجميع تعني التسامح والسمو من قبل الكل عن أخطاء الماضي، دون عنجهية حمقاء، تستلهم تراث التكفير للطوائف المسيحية، أو التخوين بين الأحزاب السياسية، كانت المعاصرة تعني الحياة والميلاد الجديد لأجيال تعيش الحب والسلام، وما عدا ذلك فتدافع عنه الملكية العتيقة ولو في أقصى الأرض عبر أساطيل صاحبة الجلالة، وما خبر جزر الفوكلاند عنَّا ببعيد.