النقد هو وسيلة من وسائل الاختيار والتفضيلات، وقد فطر الإنسان عليه كما نراه في تفضيلات الأطفال! ولا يقتصر النقد على فئة معنية بذلك، وإنما خلق الإنسان ناقدا بفطرته نتيجة العمليات الذهنية والعقلية. والنقد وسيلة للإصلاح والمعرفة، فكل العلوم المعرفية تندرج تحت وشاح النقد. فكلما أمسك مبدع بريشة قلمه أو رسام أو نحات أو عازف أو فيلسوف أو أي من المفكرين، إلا وهو ناقد يضع وجهة نظره في محبرته لينثرها على الورق. ولكننا نرى الفزع يطوف في جفون المبدعين حينما يظهر لهم ناقد يتناول ما دونوه!
لم يكن هذا الإحساس بالخوف الذي يأخذ طورا من الكراهية بين المبدع والناقد إلا لعدم فهم المصطلح. وذلك لأنه ارتبط النقد بأذهاننا بمفهوم الانتقاد، وبطبيعة الحال بين المفهومين بون شاسع.. فالانتقاد هو ذكر المساوئ والأخطاء هو مبدأ مذموم وهدام. أما النقد بمفهومه فهو: تمييز الجيد من الرديء، عن طريق التحليل والتفسير ثم إصدار الحكم بهدف توصيل الرسالة.
وقد اتخذ مصطلح النقد مشتقا من اسم الصيرفي الذي يفرز العملة جيدها من رديئها، فسميَّ بالناقد، وأوردوا في ذلك قول الشاعر في مدح ناقته:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة
نفي الدراهم تنقاد الصياريف
إذا، فالنقد هو الفحص والموازنة والتمييز ثم إطلاق الأحكام. وليس تصيد الأخطاء لأفعال البشر.
وفي خضم هذه التفاعلات الذهنية والثقافات العالمية وجب علينا أن نكون نقادا ليس في مناهج الأدب ومدارسه، وإنما في طريقة التفكير لأن اللحظة تحتم علينا ذلك. وأصبح لدينا علم منبثق من النقد نفسه إلا أنه يخص المتلقي نفسه ويسمى بالتفكير الناقد.
ومنهج التفكير الناقد منهج حديث لا يخص النقاد وإنما يخص الفرد المتلقي وهو من أهم المناهج في بلورة التلقي، لأن عملية التلقي من أعقد الأمور التي تمر بمراحل عديدة في جزء من الثانية والتي يترتب عليها إصدار الحكم واتخاذ القرار. وبهذا فإنه قد وجب علينا جميعا تعلم منهجية التفكير الناقد، لكي لا نصدر أحكاما دون تحليل وتفسير وتمحيص وتقصي الحقيقة، فشأن الناقد شأن الطبيب في تشخيص المرض وشأن القاضي حين يصدر حكما.
وبهذا يختلف مفهوم النقد بمصطلحه الأدبي عن مفهوم التفكير الناقد، فكما عرفه واطسون وجليسر أنه: "القدرة على فحص المعتقدات والمقترحات في ضوء الشواهد التي تؤيدها، والحقائق المتصلة بها بدلاً من القفز إلى النتيجة على نحو فج غير ناضج، كما يتضمن القدرة على فهم اللغة واستخدامها في عملية اتصال دقيقة، مع إدراك العلاقات المنطقية بين القضايا، والقدرة على تفسير البيانات، واستخلاص النتائج والتعميمات السليمة، وتقويم مدى صحة الشواهد والأدلة، وتعرف المسلمات، وتقويم الحجج والأحكام"، وبهذا التعريف يتضح لنا كيف تتم منهجة التفكير التي يتبعها بطبيعهة الحال اتخاذ القرار، واتخاذ القرار هو ما يجب أن نؤهل أبناءنا له وندربهم عليه.
نحن في هذه الآونة الأخيرة، أصبحنا نسمع أصواتا ترتفع، ونرى رايات تعلو وأخرى تنخفض، وجدل واسع هنا وهناك، لا لشيء سوى التعجل والتلقي الساذج بدون معرفة وتمحيص وتؤدة وتيقن. فغلب الصوت المرتفع على ساحات النقاش وتشابكت الأيدي في بعض المحادثات، ليس لشيء سوى مصادرة الرأي وإقفال الأدمغة وقذف مفاتيحها في غبة النهر!
لم يكن آباؤنا وأجدادنا على هذه الشاكلة، أو على هذا السلوك، فكانوا دهاة نوابغ - والداهية عند العرب هو الرجل المخضرم العتيد النابغة، وبالتالي يصبح مخيفا لعدوه - فأين دواهي العرب في يوم نطقت فيه ألسنة "الرويبضة" بحجة حرية الرأي التي أدخلتها علينا منظمات عالمية تدافع وهما عن الإنسان لتخريب الذهنية العربية وبعثرة شخصيتها!
والرأي مكفول لبني البشر بمختلف أطيافهم وألوانهم وجنسياتهم، إلا أنه يجب أن يكون الرأي بحسب التفكير المنهجي الواعي، ونحن أول من استنبت حرية الرأي، إذ يقول رالف دانتون في كتابه شجرة الحضارة عن العصر النيوليتي 5400 عام ق. م. في منطقتنا "جنوب غرب آسيا: "إن القرى كانت تسكنها مجموعات صغيرة تعيش في مجمع واحد فإن السلطة الحقيقية كان يمارسها زعماء العائلات.. ولكنهم لا ينفردون بسلطة الرأي.. كان الرجال يحبون الاجتماع في مكان يرتاحون إليه في القرية، وغالبا ما كان الجرن الذي يدرِسون فيه الحبوب، وهناك يناقشون أمورهم المهمة عندما تقل حرارة الجو في السماء. وكان لكل عضو في القرية الحق في أن يقول ما يؤمن به في أي أمر من الأمور، وكانوا يستمعون باحترام إلى الرجال ذوي المكانة. وكانوا يوافقون بالإجماع على القرارات التي يصل إليها المجتمعون. ولم يكن هناك من يحب أن يجد لنفسه الشخص الوحيد الذي يدافع عن رأي لا يشاطره فيه أحد؛ فكان لكل قرية في العصر النيوليتي مجموعة من العادات التي تحدد علاقات الأشخاص فتصبح قانوناً".
هؤلاء هم أجدادنا وهذا هو سلوكهم وهذه هي حضارتهم، أما ما نحن فيه الآن فهو تضارب أفكار وانسياق وراء آراء لا تُمَحَض أو تُختبر. فأصبح التفكير الناقد شحيحا منزويا لا يشغل إلا حيزا ضئيلا من عمليات التفكير، نتيجة الاعتماد على استقاء معلومات جاهزة، وبدون عناء، عبر ناقلات قد تكون غير أمينة على الذهنية العربية، فيترهل التفكير وتترهل مهامه الأدائية؛ فكما يقول المثل: "العضلة التي لا تستخدم تضمر"، فهل نحن بصدد ضمور فكري؟! لقد أصبح أغلبنا يعرف ماذا يرفض ولكنه لا يعرف ماذا يريد؛ وهنا تكمن الكارثة!