يقول فرويد: "إن كل فرد هو بالقوة وبالعرض عدو للحضارة التي هي بالأساس لصالح البشرية بوجه عام، وإن ما يبعث على الاستغراب أن بني الإنسان الذين لا يحسنون الحياة في عزلة وعلى انفراد يشعرون مع ذلك بوطأة اضطهاد ثقيلة، بحكم التضحيات التي تنتظرها منهم الحضارة حتى تجعل حياتهم المشتركة ممكنة"، وقد نستنتج مما ذكر أن السلوك الحضاري يأتي في بناء علاقات إنسانية سليمة وفي القدرة على مواجهة الاغتراب النفسي، الذي يُعد ظاهرة شائعة في المجتمعات على اختلاف نُظمها وثقافاتها، وباعتبارها أزمة الإنسان المعاصر.
تأتي الحضارة بجميع معطياتها لتهدد المجتمع المحافظ الذي يفترض بأن القبول بها يعني الاستسلام للاندثار والعشوائية، فستجد لدى الإنسان المتحفظ رغبة في التمرد على هذه الحضارة وعلى حاجات نفسه أحياناً لأجل تحقيق دوافعها الأصلية المقموعة، وهذا إجبار قسري لا شعوري يتحكم انطلاقا من الأفكار والمشاعر في اللاوعي، وينعكس سلباً على العقل الواعي والسلوك، فإذا وصفنا المجتمع بسمة المجتمع المحافظ فهذا يعني أننا نشير إلى حركات جماعية قد تأتي معاكسة للحالات الفردية وبطريقة متناقضة معها، وهذا يخل بعملية التوازن المفترض أن يقوم عليها المجتمع.
وفي صورة أخرى لضروب التناقض قد يضحي الإنسان برغباته لأجل الإطار الذي وجد نفسه موضوعا فيه، والتابع لفريضة المجتمع من خلال تضحيته بحاجاته عن طريق "كبتها"، والكبت في حد ذاته مشكلة، وحينها تكون هذه الغريزة سلطاناً يُحرر السلوكيات السيئة ويعكسها في تعبيراته الشخصية، خصوصاً حين يشاهد الآخرين يفعلون ما يرغب في فعله، ولا يستطيع إليه سبيلاً، وبطبيعة الحال فإن رغبة الإنسان في الحصول على الشيء تزداد بازدياد الحواجز التي تمنعه منه.
من خلال هذه القراءة المبسطة سنجد أن التفسير لنهوض الحضارة يقوم بشكل أساسي على مفهوم الكبت، فالمجتمع المتحضر يمتلك ردود أفعال صحية للتعامل مع حاجات الفرد بطريقة أخلاقية جيدة وملازمة، التي يدفع بها أسلوب التشارك والتسامح كوسيلة هدفها الدفاع عن الحضارة والرقي الذي نسعى إليه، وللحفاظ على استقامة سلوك الإنسان الاجتماعي باعتباره مكوناً للثقافة.