يقدم الإعلامي المتميز على قناة روتانا خليجية محمد الخميسي برنامجا استثنائيا بعنوان "وينك؟". البرنامج مخصص للقاء الشخصيات العامة (رياضية، فنية، إعلامية..)، التي كانت حاضرة في المشهد العام بقوّة ثم اختفت وغابت عن الأنظار. يبدأ محمد لقاءه دائما بسؤال "وينك" ليفتح بذلك ذاكرة وعواطف الضيفة أو الضيف على قضية جوهرية تهمني هنا في هذا المقال. القضية هنا داخلة ضمن مفهوم الهندسة الاجتماعية التي تسمح بالتواصل بين الأجيال المختلفة في المجتمع الواحد.
غالبية ضيوف الخميسي عبّروا عن أمرين أساسيين: أولا رغبتهم في الاستمرار بالعمل في مجالاتهم التي قضوا أعمارهم فيها. ثانيا: أن المجال غير مفتوح لهم للاستمرار. من المهم هنا أن نوضح أن النقطة الأولى "الاستمرار بالعمل في المجال" لا تعني القيام بذات العمل الذي قضوا أعمارهم فيه تحديدا بل بعمل آخر داخل ذات المجال. بمعنى أن اللاعب المعتزل يريد أن يعمل في الرياضة كمدرب أو مشرف رياضي أو أي عمل داخل الساحة الرياضية. الفنان قد يريد استثمار خبرته الفنية في مجالات كثيرة ليست بالضرورة محصورة في التمثيل. ذات الحديث ينطبق على الموسيقي والإعلامي. الصورة السابقة تشير إلى مشكلة اجتماعية أو إلى مشكلة في الهندسة الاجتماعية، وهي أن جيلا من المبدعين والمنتجين رغم استمرار رغبته في العطاء والإنتاج لا يجد فرصته داخل المجتمع الذي يعيش فيه. نحن هنا أمام مشكلة لأن المجتمع الطبيعي والصحي هو من يوفّر قنوات مستمرة ينقل من خلالها الجيل السابق خبراته في الحياة للجيل اللاحق. إذا انقطعت هذه القنوات فإن المجتمع سيعاني بشكل واضح مما يمكن تسميته بالانقطاع التاريخي. أي عدم وجود تاريخ مشترك يربط المجالات الرياضية والفنية والإبداعية بحلقة وصل واعية، تجعل من التراكم والتطوير والتجديد ممكنا وطبيعيا. هذا الانقطاع له آثاره السلبية على مستوى الأفراد وصحتهم الإبداعية وانتمائهم للجماعة، وكذلك على مستوى الجماعة من خلال ضعف الذاكرة المشتركة.
لا بد هنا من الإشارة إلى أهمية الشخصيات التي نتحدث عنها هنا وقيمة الخبرات التي تتوافر لديهم: في المجال الرياضي نحن نتحدث عن لاعبين شاركوا في كأس العالم وحصلوا على بطولات آسيوية ومحلية كبيرة جدا. نتحدث عن شخصيات مثل سعيد العويران وأحمد الدوخي وسعود السمّار وصالح السلومي وسالم مروان وفهد المهلل وآخرين. الخبرات الرياضية التي تتوافر عند هؤلاء اللاعبين كبيرة جدا ومن الخسارة الكبرى للمجال الرياضي ألا يتم نقلها للآخرين. المقارنة بمجتمعات أخرى مفيدة هنا. في المجتمع الأميركي مثلا لاعب بربع تجربة اللاعبين السابقين تجده يعمل بشكل نشط على المستوى المحلي للحي الذي يعيش فيه حتى يصبح عاجزا عن العطاء. بمعنى أن هذا اللاعب بعد اعتزاله اللعب يتوجه لخدمة المجتمع والحي الذي يعيش فيه من خلال الإشراف على المركز الرياضي بالحي وتدريب الأجيال الرياضية الجديدة. آخرون يمارسون الدور ذاته على مستوى الولاية وهكذا. الشاهد هنا أن خبرة هذا اللاعب لا تضيع وتجد لها طريقا منظّمة للانتقال للأجيال الجديدة.
المنطق ذاته أعلاه ينطبق على المجال الفني والإعلامي. لدينا ممثلون وموسيقيون وإعلاميون كبار تحدثوا في برنامج وينك مثل: غالب كامل، محمد رمضان، سعد خضر، ابتسام لطفي، علي الهويريني، مزعل فرحان وآخرين عبّروا عن الانقطاع وتلك الفجوة التي تحجب انتقال خبراتهم وتجاربهم للأجيال القادمة. تخيلوا لو كانت الأحياء والمدن تتوافر على تنظيمات اجتماعية يتواصل من خلالها الجيل القديم بالجيل الجديد. ماذا لو كانت في الأحياء ترتيبات بسيطة ولكنها فاعلة تعطي الإعلاميات والإعلاميين القدماء فرصة لإقامة الدورات والبرامج التدريبية للصغيرات والصغار المغرمين بالأعمال الإعلامية. ماذا لو وجد الشباب والشابات المهتمين بالفن الشعبي فرصة للقاء الفنانين الشعبيين في مجال عام مفتوح ومنظّم للتعاطي مع خبراتهم وتجاربهم؟ الكلام ذاته يمكن أن ينطبق على دورات في التمثيل والتقليد والأعمال المسرحية.
فكرة الدورات التدريبية والتنظيمات الاجتماعية على مستوى الأحياء المعروضة أعلاه ليست سوى مثال على فكرة أساسية، وهي هندسة اجتماعية (تنظيم للمؤسسات الاجتماعية) تكفل إمكانية نقل الخبرات داخل المجتمع. هناك طرق ووسائل لا منتهية أخرى يمكن أن تتم داخلها العملية ذاتها. الهدف هنا هو فتح قنوات للتواصل بدلا من الانقطاع الحالي. غالبية المتحدثين في برنامج وينك لمحمد الخميسي عبروا عن مطالباتهم للمسؤولين للالتفات لمجالاتهم. هذه المطالبة تشير إلى لب المشكلة وهي أن الهندسة الاجتماعية مركزية ومرتبطة بقرارات فردية لمسؤولين محددين. هذه المركزية تجعل المجالات محدودة وضيقة جدا. المراكز الرياضية العامة محدودة جدا وإذا توافرت تجدها في المدن الكبرى وبعدد لا يتوازى مع عدد السكان. الأعمال الفنية وبسبب الحرب على الفنون بقيادة التيارات الدينية المتطرفة لا تجد لها أي مجال عام ومفتوح يمكن أن يتواصل فيه أهل الخبرة وأهل الاهتمام. في هذه الهندسة المعطوبة تبقى المجالات كلها محصورة في جهات معينة حكومية (محدودة ومركزية) وخاصة (مشغولة بالربح الخاص لا بالنفع الاجتماعي). هذه القنوات لا تستطيع أن توفر حق المجتمع الطبيعي بالتواصل. مجتمع من ملايين البشر يحتاج لتنظيمات متعددة المستويات ويديرها الناس بأنفسهم وسط ضوابط متعارف عليها.
في الختام، برنامج وينك للخميسي يفتح لنا نافذة مهمة للتأمل في مدى صلاحية الهندسة الاجتماعية الموجودة حاليا في المجتمع ومدى قدرتها على تحقيق أحد أهم أهدافها، وهو تحقيق التواصل العمومي بين أجيال المجتمع المختلفة. غالبية الأصوات تحدثت عبرت عن انقطاع هذا التواصل. هذا الانقطاع مؤلم للأجيال ذات الخبرة وضار للأجيال المهتمة المقبلة، ويعبر عن خسارة كبيرة للمجتمع بشكل كامل. جزء أساسي من ترابط المجتمع وشعوره بالانتماء هو أن يجد أفراده وسائل طبيعية للتواصل ونقل الخبرات من جيل إلى جيل.