يصادف يوم غد الذكرى الثمانين لتوحيد مملكتنا الغالية على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وهاهي البلاد تتوشح باللونين الأخضر والأبيض احتفالاً بهذه المناسبة السعيدة، وهاهي الأغاني الوطنية الجميلة تنشر روح الاحتفال في كل مكان. وحسناً فعلت السعودية حين عبرت عن هذه المناسبة باليوم وليس العيد فهذا أقرب للتسمية التي تستخدمها معظم دول العالم غير العربية، وأيضاً للبعد عن الحرج الديني في مسمى العيد، وهو مما سمح أخيراً بأن يصبح هذا اليوم المميز إجازة رسمية لا باعتباره عيداً ينافس العيدين الإسلاميين، وإنما يوماً للاحتفاء بالوطن الغالي.
درجت العادة لدينا في اليوم الوطني على أن نحاول إبراز احتفاليتنا بشتى الطرق، لاسيما في الفترة الطويلة التي لم يكن هذا اليوم إجازة رسمية، وذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة، وفي المدارس والجامعات والمنتديات الأدبية ومن خلال الفعاليات الثقافية وغيرها. فنطالب الطلبة بأن يقوموا بكتابة قطعة تعبير عن اليوم الوطني، أو رسم لوحة في دفتر الرسم عن أحد معالم المملكة، ونخصص الإذاعة المدرسية للحديث عن فضل الوطن، ونغطي صفحات الجرائد بالقصائد وبطاقات التهنئة بمناسبة هذا اليوم السعيد، وسيصدح المذياع كما التلفاز بالأغاني الوطنية الحماسية. وبعد أن ينتهي اليوم الوطني نخلد للنوم ونحن نشعر بالرضا لأننا قمنا بواجبنا كمواطنين صالحين. وكل ذلك جميل ولا غبار عليه، ولكن أليس بالإمكان أفضل من ذلك؟ ماهي أهداف اليوم الوطني بالأساس؟ إذا كانت مجرد الاحتفال بالوطن والتغني بحبه، فأعتقد أننا نحرز نقاطاً جيدة هنا، أما إذا كان هناك هدف آخر أهم وهو تعزيز الحب والولاء والانتماء والوطنية في نفوس أهله، فأعتقد بأننا مقصرون نوعاً ما، فالوطنية لا تزيدها قوة قصيدة والوطن لا تبنيه أغنية.
اليوم الوطني يمكن أن يكون مناسبة هامة ينتظرها الجميع بشغف، لأنها مثل يوم توزيع الشهادات حيث ينتظر كل مجتهد نصيبه، وسيدرك فيه أيضاً كل مقصر تقصيره. فليكن يوماً نصفق فيه للناجحين.. أولئك الذين عبروا عن وطنيتهم بأفضل طريقة ممكنة ليست من خلال يوم واحد فقط وإنما عبر سنة كاملة قاموا فيها بأداء واجبهم بإخلاص، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، بغض النظر عن ماهية هذا العمل، فعامل النظافة الذي يكنس الشارع بإخلاص فيمنع تكاثر الجراثيم في الأحياء والمدن وبالتالي يحفظ ـ بأمر الله ـ أرواح آلاف البشر هو أكثر وطنية بمراحل من مسؤول رفيع يستغل منصبه للالتفاف على التنظيمات والقوانين من أجل مصالحه الخاصة.
فليكن اليوم الوطني أيضاً مناسبة نقف فيها بصدق أمام المرآة ونحن نستعرض إنجازات الوطن ومشاريعه العملاقة، فنقول نعم نحن قد أحسنا صنعاً هنا في حين أننا قد أخفقنا إلى حد ما هناك. ومستوى الخدمة (س) في بلادنا لا يرقى لمستوى طموحاتنا وما يليق ببلادنا، وبالتالي لنضع خطة تصحيحية لهذا القطاع أو ذاك نراجعها في العام القادم حين يحل يومنا السعيد لنرى في أي اتجاه نسير. فالناس تحب أوطانها لسببين رئيسيين: السبب الأول عاطفي، وهو مرتبط بالأهل والذكريات والألفة مع المكان ولن نجد في ذلك فرقا بين مواطن أمريكي مرفه أو مواطن صومالي أنهكته الحرب الأهلية، إنه شيء فطري لا يستطيع الكثيرون التخلص منه بسهولة حتى أولئك الذين لا يكفون عن التذمر من أوطانهم ليل نهار! أما السبب الثاني فهو عقلاني إلى حد كبير، فالمرء يحب البلاد التي توفر له الأمن والأمان والخدمات الصحية والتعليمية والسكنية الراقية، والتي تحترم إنسانيته وتسمح له بالتعبير عن آرائه دون خوف، وتوفر له بيئة للعمل والإبداع. ولذلك نجد مثلاً أن الكثير من المسلمين المتدينين يشعرون بالولاء للدول غير الإسلامية التي يقيمون فيها رغم الاختلاف العقائدي معها. وبالتالي لتعزيز انتماء الإنسان للبلاد التي يقيم فيها، فلابد من بذل الجهود لتحسين مستوى المعيشة فيها، وذلك لا يعني كما يتوهم البعض بأن على الوطن أن يغرق مواطنيه (أو يغريهم)! بالمال أو الخدمات المجانية بقدر ما يعني أن ينظم أمور حياته في جو من الشفافية والعدالة الاجتماعية. فالمواطن الغربي مثلاً يتقبل الضرائب الباهظة لأنه يعرف بأن الجميع يدفعها بلا استثناء، ولأنه واثق بأنه حين يدفعها فإن مردودها سينعكس عليه بشكل مباشر في تحسين مستوى الخدمات البلدية أو الصحية أو التعليمية أو غيرها.
والعلاقة بين المواطن والوطن طردية، فلا يمكن أن يتوقع المواطن أن يكون في خانة المتلقي فقط، دون أن يساهم هو نفسه في توطيد أسس هذه العلاقة بالقيام بواجباته الشخصية. فقبل أن يطالب الوطن بالقضاء على الفساد ومحاربة الواسطة، هل قام بدوره الفعّال في هذا الخصوص؟ هل هو فعلاً لم يقم يوماً بطلب الواسطة لنفسه أو أقاربه ذات يوم؟ أو كان هو الوسيط من أجل أن يحصل فلان على مقعد جامعي أو بعثة دراسية أو فرصة وظيفية أو منحة أرض أو مناقصة حكومية؟ سيقول أحدهم ولكن ثغرات النظام تسمح بذلك، وسنقول له بأن النظام في النهاية حبر على ورق وأنا وأنت من نصنعه فعلاً على أرض الواقع.
إنه وطن عظيم فعلاً ذلك الذي منحنا الخالق إياه سواء بالمقاييس الدينية أو الدنيوية من مادية أو بشرية أو تاريخية، وأنا أعتقد جازمة بصدق الكلمات الرائعة التي نترنم بها في يومنا الكبير "والله ما مثلك بهالدنيا بلد"، فالبذور صالحة والأرض خصبة ولم يتبق سوى العناية الخالصة التي تبذلها سواعدنا لتستحيل البذرة إلى شجرة تطاول عنان السماء.. وكل عام ووطني ومن يسكنونه بألف خير.