بعد سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين، جلست أتابع عشرات التحليلات والقراءات السياسية، لأطمئن بأن الأمور هي لصالحنا في مآلاتها.
بعض الأصدقاء آمنوا تماما أن الحوثيين هم الحل في اليمن، وقد تعب اليمنيون من الفوضى التي أعقبت الربيع العربي لديهم، وتعبوا من تآمر فلول الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وفشل كل المبادرات التي أتت برئيس ضعيف لا قدرة له أو أمر في بلاد الفسيفساء القبلية والطائفية المعقدة، وما أقنع هؤلاء الأصدقاء أن الروايات الآتية من اليمن تحكي تعاملا رفيعا للحوثيين مع أهالي صنعاء والمدن التي سقطت بأيديهم، فضلا عن الخطاب الذي دشنه عبدالملك الحوثي في أول ظهور فضائي له بعد سقوط صنعاء.
الرجل كان من الدهاء والذكاء أن طرح رؤية وطنية حادبة، لا تشعر معها أنه يريد الانفراد بحكم اليمن، وهو المتغلب اليوم في بلاد بلقيس، بل وغلف خطابه لليمنيين بعروبة أصيلة وإسلامية عامة لا تلمح أي بعد طائفي فيهما، تنطليان تماما على من لا يعرف التأريخ ودهاليز السياسة ومكرها، وجعلتا الكثيرين يؤمنون فعلا بأن الرجل وقومه هم الحل الأكيد لليمن.
كنت أرد على أصدقائي هؤلاء بألا يخدعنكم هذا الخطاب الوحدوي العاطفي، فهو وإن بدا في ظاهره لصالح اليمن؛ إلا أنه خطاب اقتضته المرحلة، والقوم يشهد لهم التأريخ في التلون حتى يتمكنوا، ومن ثم تظهر أهدافهم الحقيقية، وعبدالملك الحوثي يخطو خطوات إمامه آية الله الخميني ذاتها، قبل انطلاق ثورته وهو في منفاه بباريس، وحتى عندما نجح في بدايات الثورة، لم يظهر وجهه الحقيقي حتى تمكن، وبعدها أسفر عن أجنداته وأهدافه وأتى بحكمه الثيوقراطي.
التأريخ يعيد نفسه في اليمن، ومن المهم لكل هؤلاء الذين خدعهم عبدالملك الحوثي بخطابه أن يعيدوا قراءة ما فعله الخميني بتلك المرحلة، وكيف استطاع كسب الأحزاب السياسية الأخرى والشعوب غير الفارسية لصفه عبر وعود هي ذات ما يردده اليوم عبدالملك الحوثي، وأسوق هنا ما قاله الباحث مصطفى حسين وهو يرصد تلك الحقبة: "الذي شارك في إنجاز الثورة الإيرانية مختلف الإيرانيين، من دينيين والشخصيات والمنظمات الليبرالية والشعوب غير الفارسية، كما شاركت منظمة مجاهدي خلق والحزب الشيوعي الإيراني وطالبوا الخميني بتبني الديموقراطية، على أنها تنظم العلاقات بين الحاكم والمحكوم انطلاقا من الاعتقاد بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية، وبالتالي فإن النظام السياسي الحاكم مسؤول أمام الشعب ورهن إرادته".
يذكر من أدرك تلك الفترة كيف كانت الأطروحات الإسلامية المرفوعة من قبل الخميني، والتي لا بعد طائفيا فيها أبدا، جعلت من المفكرين وقيادات التيارات الإسلامية تنساق وراء تلك الشعارات التي لامست عواطفهم، جعلت من الشيخ يوسف القرضاوي يعتبر في كتابه (أمتنا بين قرنين) انتصار الثورة الإيرانية من ثمرات الصحوة الإسلامية، حيث يقول: "لقد أقام الخميني دولة للإسلام في إيران، وكان لها إيحاؤها وتأثيرها على الصحوة الإسلامية في العالم، وانبعاث الأمل فيها بالنصر"، وها هو القرضاوي اليوم بعد كل تلك السنوات يضرب كفا بكف ويهاجم إيران وما تفعله.
الخميني وهو في باريس وعد أولئك الذين تآزروا معه بأن تكون الديموقراطية هي أساس الحكم في إيران، وعندما نجحت الثورة انقلب عليها في مراحل، لينتهي أخيرا إلى مسألة ولاية الفقيه وحكم الآيات لإيران، وانقلب على كل من أيده من الليبراليين وبقية التيارات الفكرية والعرقية المتضررة من نظام شاه إيران. يسرد أبو الحسن بني صدر في لقاء معه بصحيفة "الشرق الأوسط": "الاعتقاد الذي ساد في بداية الثورة هو أن الخميني سيعود إلى قم ليكون بمثابة أب روحي للثورة، وأنه لا رغبه لديه في المشاركة، أو مشاركة رجال الدين عموما في السلطة التنفيذية. إلا أن الأيام أثبتت أن هذه القراءة لم تكن صحيحة".
ما أود أن أصل له من خلال هذا الإلماحة التاريخية التي سقت، أن عبدالملك الحوثي وهو يستخدم هذا الخطاب الوطني المهادن، إنما يريد أن يتمكن، ووقتها سيعرف كل من انخدع بخطابه اليوم الوجه الحقيقي له. معظم هؤلاء الزعامات أثبت التأريخ أنهم ينقضون عهودهم، ولا صديق أبدا لهم، وخصوصا من ينطلق من روح أيديولوجية صميمة تقول بعداوة غير طائفتهم مهما بلغوا من تسامح، وإن تعايش الزيود لمئات الأعوام مع الشوافع السنة في اليمن؛ إلا أن الحوثي يحمل فكر الخميني ذاته، ويؤمن بولاية الفقيه، التي ستأتي بحكم إيراني خالص ولكن بوجه يماني.
والسؤال هل ما حصل في الأسبوع الفارط بصنعاء، كان إيمانا من دول عربية ومباركة منهم للحوثي على حساب خصمهم الجديد "الإخوان المسلمين" كما يردد بعض المحللين، أم أنها فوجئت بما حدث ولم تملك إلا أن تبارك ما اتفق عليه اليمنيون، وخصوصا أن رئيس الجمهورية هو من وقع الاتفاق معهم، بينما تذهب القراءة الثالثة إلى أن مباركة ما حصل هي أفضل السيناريوهات، حتى تستطيع هذه الدول محاربة حزب يظهر للعلن، فالأحزاب الصغيرة عندما تتولى سدة الحكم تسقط، كما حصل للإخوان في مصر.
أميل إلى أن الحوثيين يمثلون خطرا استراتيجيا علينا -مهما كانت الدوافع لبقائهم-، والوثوق بهم هو نوع من الغفلة وتكرار للأخطاء التي ارتكبت، وأنهم يمثلون عمقا إيرانيا خطيرا سيطوقنا مع الوقت، ومستقبل اليمن معهم سيكون حربا أهلية في قادم الأيام، سينتهي إلى تقسيمه لدويلات، وهو ليس في مصلحة اليمن ولا دول الخليج.
الحوثي اليوم يكرر ما فعله الخميني قبل خمس وثلاثين عاما، والعاقل من يتعظ قبل التفاف الحبل.