من أعظم الكذبات التي تروج على بعض السذج من العرب هو تصديق أميركا في ترويج الديموقراطية والعدالة في العالم، دون أن يفطنوا إلى أن أميركا تهتف بالحرية والديموقراطية في كل مكان، ولكنها تغض الطرف عن "فلسطين" التي يسوم اليهود أهلها سوء العذاب ويقتطعون من أرجائها في كل لحظة، بعد معاناة القتل والتهجير والترويع.

وحتى نفهم هذا الموقف المنحاز جداً من أميركا لإسرائيل، لا بد أن ندرك أن الغرب ينظر إلى أن إسرائيل هي التي تمثل الخطوط الأمامية للحضارة الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وأن التعدي عليها هو تعد على الحضارة التي زرعتها في المنطقة ورعتها وربتها وحمتها.

هذا الانحياز نظّر له المفكر الصهيوني البريطاني "برنارد لويس" الذي ولد عام 1916، ولا يزال حياً إلى اليوم، والذي جال العالم الإسلامي كله، وجنّد نفسه لدراسته من داخله وخارجه، والتنظير الشرس تجاه الكيد له واعتبار العرب والمسلمين مجموعة من البربر الذين لا يستحقون الحياة، وأنهم هم الخطر الحقيقي على الغرب وحضارته، وأن استعمارهم وتفتيت بلادهم هدف لا يقبل المساومة.

إن "برنارد لويس" ليس مجرد مفكر يكتب ويطبع ويوزع وينشر، بل هو كاتب استراتيجي تؤخذ أفكاره كمشروعات سياسية استراتيجية، وتتوافق رؤاه وتنظيراته مع صقور الإدارة الأميركية الذين يرون فيه ملهماً لكثير من تصرفاتهم وأعمالهم، إذ يحضر محاضراته القادة والسياسيون والمفكرون الأميركيون، ويرون في رؤاه حادياً للعمل، ويمكن أن يختصر لنا وصف صحيفة "وول ستريت جورنال": "إن برنارد لويس (90 عاما) المؤرخ البارز للشرق الأوسط وقد وفر الكثير من الذخيرة الأيديولوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب حتى إنه يعتبر بحق منظرا لسياسة التدخل والهيمنة الأميركية فى المنطقة".

"برنارد" لم يقتصر على التنظير للحاضر، بل حرث في الماضي وعاث في التاريخ الإسلامي فساداً، وأبرز البؤر المظلمة في التراث، وشوه الحسن، وبرر الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ورأى في المسلمين قطيعاً لا يستحقون الحياة، وأنهم الخطر الأكيد على الحضارة، وأن إشغالهم في أنفسهم، وإثارة الحروب والقلاقل في ربوعهم، وزرع كل عوامل القتال والشقاق هي التي تحمي الحضارة منهم حتى لو أدى ذلك إلى إعادة عصر الاستعمار، وذلك من خلال 20 كتابا كلها في شؤون الشرق الأوسط والصراع بين العرب والغرب.

في سنة 2003، كتبت مقالاً بعنوان: "الاستراتيجية الأميركية.. والأهداف الخفية"، وذلك قبل سقوط صدام حسين، تعرضت فيه إلى المشروع المراد في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة تثوير المنطقة لإدخالها في حالة من الفوضى، وأن المشروع قد رسم معالمه "برنارد لويس"، وهو الذي قد قدم المشروع للساسة الأميركان سنة 1983، لتصوره عن مشروع "تقسيم الدول العربية والإسلامية"، وأن التبشير بحرب العراق وتسميتها: "العراق أولاً" يعني البدء بهذا المشروع الكبير، وللأسف فإن هؤلاء يخططون، ويجدون من الجماعات والثوار ومدعي الإصلاح والمغيبين ما يجعلونه وقوداً لهذه المشروعات التي نراها الآن رأي العين، والتي ما زال الكثير يشكك إلى الآن في النوايا التي ستكون محصلتها أن تنام إسرائيل قريرة العين، في حين يعيش العالم الإسلامي والعربي 100 سنة قادمة يتقاتلون فيما بينهم كما رسمها بالحرف "برنارد لويس"، ونفذها تلامذته من الساسة الغربيين.

إنه يقف أمام كل مشروع للسلام، ولا يرى إلا الحرب المكشوفة والمتوحشة سبيلاً لتركيع العالم الإسلامي، فحتى مبادرات الغرب الشكلية يقف أمامها ويعارضها، وما كان موقفه من مؤتمر "أنابوليس" للسلام الذي دعت إليه أميركا عام 2007، إلا دليلا على هذا، حيث قال: "يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتباره مجرد تكتيك موقوت، غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضا، كما فعلت أميركا مع الهنود الحمر من قبل".

وحتى نعرف مدى حقارة نظرته إلينا، فلنقرأ ما يقول عنا في إحدى مقابلاته، حيث يقول: "العرب والمسلمون قوم فاسدون مفسدون فوضويون، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية..في حال قيام أميركا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان".

ومع ذلك يظل "برنارد لويس" نموذجاً للوعي الغربي بأهمية المثقف والمفكر الذي له دوره البارز في الحراك الحضاري والصراع الدولي، والانطلاق من مفاهيم البحث حتى لو كانت إمبريالية وتسلطية وتقدير قيمة العالم والمفكر واستشراف أقواله وأفكاره في التعامل مع السياسة والأوضاع المختلفة.

وفي مقابل ذلك، فإن انطلاق برنارد لويس من مركزية الحضارة الغربية وحكوماتها القائمة والتعاون معها دليل على طريقة المثقف والمفكر الغربي من ضرورة الانطلاق من المشروعات السياسية بعيداً عن المناكفات التي تذهب بركة الفكر والوعي، ولذا كان الفلاسفة والمفكرون والمثقفون في طليعة صناع القرار، وفي اتساق مع استراتيجيات الدول ورؤيتها الحضارة والسياسية.

إنني على يقين أن مثل هذا الكلام سيجد أصواتاً كثيرة تدعي الوعي والعقلانية وهي تشكك في "المؤامرة"، وتعمل على تبسيط دور هذا المفكر الصهيوني في بناء الاستراتيجيات التي نراها رأي العين، وكأنهم لا يرون بأم أعينهم كيف يصنعون الخطط على المكشوف، ويكتبون مراحلها وأزمانها ثم يوقعونها ونظل نشكك.