كتبت الكاتبة البريطانية "لوسي كيلاوي" مقالا رائعا حول تأثير المقهى على الكاتب بعنوان "أهلا بكم في مكتبي الجديد: مقهى في شمال لندن".

لم يكن مكتبها ذاك الذي تقصده سوى مقهى "ستاربكس" و"يوفوريوم" في هايبري كورنر شمال لندن، وأكدت الكاتبة في مقالها أنها لم يكن لديها حماس لجلب عملها "الكتابة" إلى المقهى، لولا إلحاح أولادها، فهم يقسمون أنه المكان الذي ينجزون فيه أفضل أعمالهم، وقد قررت أن تفعل ذلك بعد أن قرأت مقالتين عن مثالية العمل في المقهى، أحدهما في "فايننشال تايمز"، والآخر في "نيويورك تايمز"، وزارت مواقع إلكترونية أخرى كلها تحفز على ذلك.

إلا أن "كيلاوي" قالت بعد أن خاضت هذه التجربة بنفسها:

"لا أصدق أن العمل في المقهى يستطيع زيادة قدرتي الإبداعية. هناك مفعول واحد للكوفي شوب بالتأكيد، وهو أنه غير مريح لهيكلك العظمي. كذلك تؤدي التجربة إلى تهيج المعدة: فنجانان من القهوة، كوكاكولا دايت، شطيرة لحم، وقطعة كيك، ولم نصل بعد إلى فترة الغداء"!

على المستوى الشخصي، أجد أن الكتابة في مكان مليء بالضجيج ويعج بالناس أمر صعب، وأعتقد أن الكاتبة قد توصلت إلى النتيجة نفسها نوعا ما، إلا أنه يحسب لها أنها كتبت مثل هذه المقالة الممتعة ذات التفاصيل الدقيقة، بعد أن قررت أن تخوض التجربة بنفسها.

إن ظاهرة المقهى قد عرفتها المجتمعات الإنسانية كمحفز على الحوار والنقاش وتداول الرأي، لا على الكتابة، على الرغم من أن الموضوعات التي يتم طرحها وتداولها في المقهى، يمكن أن تكون ذات قوة وفعالية إذا أعاد الكاتب صياغتها وكتابتها في مكان هادئ!

ومن خلال تجارب بعض الزملاء، فإن أفضل أفكار الكتابة هي تلك خرجت من رحم المقهى، ولهذا يعدّ المقهى امتدادا لما كان يحدث من حراك ثقافي مؤثر في القرنين الماضيين، فتلك المقاهي التي كان يرتادها كبار المثقفين العرب، سواء في باريس أو القاهرة أو روما أو بيروت أو لندن أو بغداد وغيرها، حيث كانت هذه المقاهي بمنزلة الملتقى العام الذي يقوم بدور الوسيط الثقافي في المجتمع، ولململة شتات المثقفين والمبدعين، وتقوية أواصر التواصل بينهم بغض النظر عن تلك الخلافات التي تحدث بين المتجايلين والمتنافسين منهم، فكون هذه المقاهي غير رسمية، أي غير خاضعة لمؤسسات الدولة وسلطتها، فهذا ما ميزها وأبعدها عن الطابع الرسمي البيروقراطي، وما نراه اليوم من ملتقيات ومنتديات ثقافية، هو نتيجة لوعي ثقافي بأهمية وجود المثقف في أجواء ثقافية، وليس شرطا أن يكون وجوده في إطار المؤسسة الثقافية الرسمية.

فمثل هذه الملتقيات الخاصة في المقاهي تعطي إشارات مهمة إلى شيوع الحوار الثقافي، ولا أظن التجمع في المقهى الثقافي بهدف الوجاهة الثقافية والاجتماعية، بقدر ما هو مكان للتواصل والحوار وطرح القضايا المختلفة على جميع الأصعدة، وسط أجواء تجمع ما بين المتعة والهدوء والتواصل والجدية.

وعلى المستوى الخاص ربما كل منا يعرف مشاريع ثقافية مهمة انطلقت من المقهى، ونمتْ لتدخل بكل حرفية إلى بعض المؤسسات الثقافية، فهناك من يعدّ المقهى أشبه بورشة عمل لمشاريعهم الكتابية، يتحاورون ويناقشون داخل أروقة المقهى أكثر أريحية من أي ناد أدبي آخر، وربما البعض يجد العمل الكتابي داخل المقهى أكثر متعة وتركيزا، ربما بسبب مفعول الكافيين.

ولكن الكتابة داخل المقهى ليست أمرا مريحا للكل، ولكن هنالك من يفعلها، وكما أشارت الكاتبة البريطانية بقولها: بحثت "عن المشاهير الذين يعملون في المقاهي، وكان على رأس القائمة جي كي رولينج. الآن أنا أغفر لها كل شيء. إذا كتبت روايات هاري بوتر في كوفي شوب، من المؤكد أنها استطاعت قراءة رواية ميدل مارش في مكتب هادئ على كرسي مريح".