أكتب هذا الأسبوع من مدينة نيويورك، العاصمة الاقتصادية والثقافية للولايات المتحدة، وهي تعيش أجواء افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، وافتتاح الموسم الانتخابي الأمريكي (للكونجرس وحكام الولايات)، وبداية الموسم الثقافي كذلك.

وكنتُ قد عشتُ في مدينة نيويورك عقدين جميلين من الزمن، في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، مما يجعل العودة إليها دائماً محببة، حيث أعود إليها مرة كل عام على الأقل، فهي مدينة ديناميكية متجددة متغيرة، كقصيدة قديمة تعيد قراءتها بين حين وآخر، وتجد كل مرة معاني ومغازي لم تخطر لك ببال سابقاً.

وعلى الرغم من سمعة نيويورك بأنها مدينة رعب وإجرام، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك، ولو قارنت أرقام الجريمة فيها بمدن أخرى أمريكية أصغر منها بكثير، لرأيت الفرق واضحاً. وخلال إقامتي فيها نحو عشرين عاماً لم أر جريمة عنف واحدة. وسبب هذه السمعة السيئة هي تركز وسائل الإعلام في نيويورك، حيث تقوم بنشر أخبار جرائم المدينة في جميع أنحاء العالم. فجميع شبكات التلفزيون والإذاعة الأمريكية مقرها في نيويورك، وليس هناك وسيلة إعلام كبيرة أو متوسطة في العالم لا يوجد لها ممثل في نيويورك، بما فيها من الدول المعادية للولايات المتحدة مثل كوبا وإيران وفنزويلا.

وكذلك يشتهر "النيويوركي" بالحدة والجلافة مع الأجانب، ولكنها أيضاً سمعة غير صحيحة، فالمدينة من أكثر مدن العالم ترحيباً بالأجانب، حيث تتجاوز نسبة المقيمين فيها القادمين من دول أخرى ثلث إجمالي عدد السكان. وقد سُئل عمدة نيويورك مرة عن تعريفه للنيويوركي الأصيل، فقال: "النيويوركي الأصيل في نظري هو من يأتي إلى المدينة من أي مكان، ولكنه بعد أن يقضى ستة أشهر في المدينة، يصبح أكثر سرعة في التفكير والكلام والمشي من ذي قبل." وهو بذلك يعلق على ما اشتهر به أهل المدينة من سرعة البديهة والكلام (بحيث لا تفهم ما يقوله بعضهم) والمشي، حيث ينقطع نفس السائح الذي يحاول مجاراة مشي أهل المدينة. قارن موقف عمدة نيويورك من الأجانب مع مواقف مدننا العريقة، والتي يمكن أن يولد الإنسان فيها ويقضي كل حياته في ربوعها دون أن يعتبره أهلها واحداً منهم.

وتجمع نيويورك بين العمل الاقتصادي والسياسي الجاد كل الجد، وبين العمل الثقافي المبتكر avant garde في المسرح والكتابة والفن والموسيقى، وقد بدأ هذا الشهر موسم الأوبرا وموسم مسارح برودواي وخارج برودواي، وكما يحدث في كل انحسار اقتصادي، فإن الأدب والفن ينتعشان، ويتوقع النقاد موسماً حافلاً هذا العام. ولكن الوقت ما زال مبكراً للحكم على ذلك.

وتحفل المدينة بالمكتبات التجارية المتميزة، والتي بها من العادات والتقاليد الجميلة ما هو حري بالتقليد والمحاكاة لدينا. وتحتضن بعض هذه المكتبات مقاهي، في وسط المكتبة، تستطيع فيها أن تستعرض ما شئت من الكتب وتقرأها، قبل أن تقرر شراءها من عدمه. وهناك من يقضي في هذه المقاهي الساعات، خاصة الطلبة والمتقاعدين وربات البيوت والأطفال، وأصبحت هذه المقاهي مرتدى أكثر جاذبية، من الناحية الاقتصادية، بعد أن استفحلت الأزمة المالية العالمية وأدت إلى فقدان عشرات الآلاف من سكان المدينة وظائفهم وما كانوا يعتمدون عليه من دخل.

وتحتفي نيويورك بالكتاب أكثر من أي مدينة أخرى في أمريكا، وتحتوي نيويورك أكبر عدد من الناشرين في الولايات المتحدة. وعادة ما يقوم الناشر بترتيب حفلات للتعريف بالكتب الجديدة، وتسمى book launch parties ويُدعى لها النقاد وغيرهم للالتقاء بالكاتب ومناقشته ومن ثم الكتابة عنه، ويرتب الناشر للكاتب حملة ترويجية تسمى book tour تأخذه لأجزاء المدينة المختلفة، ووسائل الإعلام فيها،

ومن العادات الجميلة في مكتبات نيويورك ما يُسمى بـ"القراءات" من الكتب الجديدة، حيث لا تخلو أي مكتبة رئيسية في أي يوم من كاتب يقرأ من أحد كتبه، خاصة الجديدة منها، ويتفاعل من خلال ذلك مع قرائه ومعجبيه. وخلال هذا الأسبوع، وفي مكتبة واحدة، كان هناك أكثر من خمسة كتاب يقرؤون من كتبهم، ولما لم يكن لدي من الوقت ما يسمح بالاستماع إلى جميع هؤلاء الكتاب، اخترت كاتباً مغموراً هو توم ماكارثي Tom McCarthy واكتشفت أنه ليس مغموراً تماماً، فله روايتان على الأقل، هما Remaider و C حظيتا باهتمام القراء والنقاد على حد سواء، ورشحتا للحصول على أفضل الجوائز، على الرغم من أن المؤلف يبدو ثائراً على مفهوم الرواية التقليدية بكل معنى الكلمة، ومع ذلك تقبله المستمعون والنقاد بصدر رحب وأوسعوه ثناءً وتقديراً. وأحياناً ما يتبع هذه القراءات حفلة توقيع، حيث يصطف القراء طابوراً طويلاً للحديث مع الكاتب والحصول على توقيعه على كتابه كتذكار.