تثبت لنا قيادة المملكة العربية السعودية يوما بعد يوم صدق وعودها لنا، كشعب يتطلع إلى السلام وينبذ الإرهاب والتطرف، تثبت لنا وللمجتمع الدولي حولها أنها رائدة في مبادرات السلام العالمية، وقيادة ومشاركة العمليات السياسية الدولية الهادفة لمحاربة رؤوس الفتنة ومطاردة جرذان الإرهاب في المنطقة، وأن لها ثقلها السياسي المؤثر في العالم، كما ثقلها الديني والاجتماعي المعروف والرائد على مستوى الشرق الأوسط.

اتضح هذا لنا في العمليات العسكرية التي تمت فجر الثلاثاء الماضي الـ23 من سبتمبر لهذا العام، إذ أعلنت القيادة فيه عن مشاركة القوات الجوية الملكية السعودية في عمليات عسكرية في سورية ضد التنظيم الإرهابي "داعش"، ضمن تحالف دولي للقضاء على الإرهاب ضم دولا عربية أخرى لدعم المعارضة السورية المعتدلة.

وكان مصادفة ـ وربما تعمدا ـ تاريخ المشاركة مع هذا الحلف الدولي والضربة الأولى للإرهاب مع الذكرى الرابعة والثمانين لتوحيد المملكة العربية السعودية، واحتفال المواطنين باليوم الوطني المجيد، كان له دلالة كبيرة وعميقة بأن أمن المملكة أمر أساس ومحوري في سياستها الداخلية والخارجية، وأن سيادة المملكة الدولية لها قيمتها وعليها مسؤولياتها في تعزيز السلام في المنطقة.

ومع ظهور صور الأبطال المشاركين في الضربة العسكرية الجوية، التي في ظهورها شجاعة كبيرة من القيادة؛ لأنهم قد يكونون أهدافا لأعدائهم من الإرهابيين، وكان من بينهم أحد أبناء ولي العهد، تتضح رسالة أخرى تتجلى في أن جميع أبناء الوطن مسؤولون عن حماية هذا الكيان والمشاركة في نمائه وتطوره، والوقوف ضد أعدائه كل في موقعه الوظيفي والاجتماعي دون امتيازات أو تفرقة بين مواطن أمير أو مواطن من عامة الشعب.

في خطاب ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع بعد مشاركة هؤلاء الأبطال قال: "إن أبنائي الطيارين قاموا بواجبهم تجاه دينهم ووطنهم ومليكهم"، وأكد حسب وكالة الأنباء السعودية على: "اعتزازه باحترافيتهم وبسالتهم ووقوفهم ضد من يشوه نقاء الإسلام وسماحته" وفي حديثه تأكيد على عزم الدولة الواضح على اجتثاث هذه النبتة الخبيثة ـ نبتة الإرهاب ـ من جذورها بكل ما أوتيت من قوة وأبناء ومال. وهذا ما أكده أيضا سمو وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل عقب مشاركته في المنتدى الدولي لمكافحة الإرهاب.

ولكن مع هذه التأكيدات والمشاركات الخارجية، يلحّ علينا تساؤل وقلق دائم: "وماذا عن إرهاب الداخل؟"

لا يختلف اثنان أننا نمر بمرحلة انتقالية حرجة، وينبغي أن نخرج منها بأقل الخسائر، وكثير من الأرباح التي سيجنيها وطننا ونحن معه وتسعد به الأجيال القادمة. لقد سحقت الصحوة الغافلة جماليات الحياة في صدور الكثير من هذا الجيل، وطالت بنارها البعض الآخر حتى شوهته، وكانت هي والخطابات المتطرفة والحزبية الأخرى سببا في ظهور ورعاية نبتة الإرهاب وتصديرها للخارج، ومشاركة عدد كبير من أبنائنا مع الجماعات الإرهابية المختلفة في الخارج، وتعاطف عدد آخر من الداخل معهم دليل على انتشار هذا الفكر بين أطياف كبيرة في المجتمع.

فضحايا ـ ورعاة ـ هذا الفكر هم من كانوا قبل أيام يمررون عبر الوسائط المختلفة تحذيراتهم من الاحتفاء باليوم الوطني، ويلبسونه كالعادة رداء الدين، ويغلظون التحريم والتهويل من فكرة الالتفاف حول الوطن والولاء له ولولاة أمره، وهم أيضا من ينفثون سمومهم في عقول مريديهم وأبنائهم عن طريق استنكار مشاركة القوات السعودية في قصف معاقل الإرهاب، ناسين أن هؤلاء البغاة سفكوا دماء الأبرياء، واحتلوا حرمة أنفسهم وأموالهم، وهم يدينون بنفس دينهم باسم الجهاد والشريعة ولحلم الخلافة البائس، ويحرضون بطرق مباشرة وغير مباشرة على الذهاب إلى البلاد المبتلاة بشراذم الإرهابيين من مختلف الطوائف؛ بحجة نصر الإسلام وأهل السنة.

المملكة العربية السعودية - بنظرة منصفة - تثبت منذ تأسيسها على يد الراحل جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ أنها قوة دولية عظمى، ولها مواقف سياسية واضحة وقوية على مر السنوات الأربع والثمانين الماضية، ومواقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ حفظه الله ـ في السنوات الأخيرة التي تنوء بالفتن والشرور والفوضى صارمة وجادة وحفظت البلاد ولله الحمد من انعدام الأمن الذي نراه في الدول المحيطة، ولكن المواجهة الداخلية مع مجرمي الداخل وإرهابييها وحاملي الفكر المتطرف الذين يظنون ـ وهذا رأس المشكلة ـ أنهم الحق وغيرهم أهل الضلال، المواجهة معهم هي التي تحتاج شجاعة ووضوح وصرامة ومواقف مفصلية وحاسمة تشبه تلك المواقف السياسة الخارجية.

الأفكار المتطرفة التي تعدّ وقود الإرهاب والجذور الضاربة عميقا في جيل كامل ويزيد لن نستطيع مقاومتها بطائرات أو قوات عسكرية وطيارين بواسل، بل الفكر يحتاج شجاعة فكرية أخرى تفوقه في واقعيتها ومنطقها وصلاحيتها للزمان والمكان.

مواجهة الخطاب الديني المتشدد في مناهجنا ووسائل إعلامنا ومؤسساتنا الحكومية وغير الحكومية وعلى منابر مساجدنا، هي الخطوة الأولى الشجاعة التي نبدأ بها من الداخل.

أن نقول للشيخ وللمفتي وللمعلم وللمواطن المحرض والمخطئ أخطأت، ويؤخذ على أيديهم ويعلن عن ضلال توجههم. وهنا كمواطنين احتفلنا بيوم وطننا الحبيب قبل أيام، وأعلنا ولاءنا له، وفداءنا لكل شبر منه بدمائنا وأموالنا.

علينا أن نترجم هذه المحبة إلى واقع عملي، وألا ننتظر القوات الداخلية أو الخارجية تقوم بأدوارها ونقف متفرجين، بل أن نعبر في كل سانحة عما نراه من خلل فكري في مجتمعنا، وأن نقاوم الأفكار المتطرفة التي تحيط بنا بقوة الإيمان والمنطق وأصالة الانتماء للوطن.