(إنّ الحياة قصيدة أعمارنا

أبياتها، والموت فيها قافية

متّع لحظك في النجوم وحسنها

فلسوف تمضي والكواكب باقية)

"إيليا أبو ماضي"

عند أحد مخارج الطريق الدائري الذي يحيط بمدينتي؛ وفي مكان بدأ أول ما بدأ بمصلى للعيد لم يكن غير سور يحيط أرضا صخرية لا تقام الصلاة فيها سوى مرتين في العام.

بجوار المكان كانت حديقة وحول المصلى كانت إرادة حولت سوره لمدار لمجموعة من الراغبين بالسير والدوران حوله وربما الهرولة، خاصة أن المصلى يقع بين شوارع أربعة بلا أرصفة. استمر السائرون لسنوات معرضين لخطر السيارات حتى انتبهت البلدية لأن رحابة وفضاء المكان يساعدان على إقامة ممشى يكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وهذا ما كان.

دبت الحياة في المكان وهي حياة تذكرك بحياة الحواري القديمة؛ فغالبا ستبصر وجوها ألفت رؤيتها وتستمع لحكايات وقصص تعرف أولها، وربما وقعت بعض الصراعات والجدال الذي يؤدي إلى اعتزال أحد الأصدقاء أصدقاءه وتنحيه بعيدا عنهم.

وربما شاهدت عناق صديقتين حالت ظروفهما دون أن تلتقيا زمنا وتعارفت القلوب قبل الملامح!

للمشي أوقات تصل الليل بالنهار وللحديقة شروط تتحقق بجودة الطقس وتفر من الغبار والريح والمطر الغزير النادر!

وبينما تتراقص الخطى على رصيف السائرين الصخري تتقارب وتتباعد ويسبق الرجال النساء، ويسبق الرياضيون السائرين المتقطعين ستلمح مظاهر أخرى للحياة؛ فمن معالم المكان المميزة أفواج البائعين العابرين أو شبه الثابتين حيث يحضرون بضاعتهم المزجاة من قوارير الماء للمشروبات الباردة والساخنة وشيئا من حلوى أو حتى طعام صنع في المنزل!

وتغيب وجوه كذلك الشيخ الذي كان يلتحف بمشلحه ويضع نظارته السميكة على عينيه ويراقب أحفاده الذين حضروا برفقته وأخذ يوزع عليهم المال ويراقبهم قدر ما تسمح له شيخوخته ثم يعود بهم مع سائقه؛ إلا أن الموت غيبه قبل أن يرحل الشتاء الماضي رحمه الله.

على أرصفة الحديقة - خاصة في أيام الإجازة- سترى بعض الحيوانات والطيور وربما افترس قط جائع طيرا مدربا فرّ من صاحبه؛ وربما رافقت خطوات الصغار كلبا يتنزه مع صاحبه أو قطا أليفا.

وفي زاوية ما لا يمل هواة التسابق بالسيارات تحريك سياراتهم ببراعة تستدعي دهشة عيون الصغار وغالبا المتسابقين من الشباب وقد ترى البائع المزود لهم بقطع الغيار التي تناسب ألعابهم!

الألفة التي تخلقها الحديقة يختصرها أطفال بعض الباعة والبائعات في اللعب ونقل الحكايات المثيرة التي صادف أن شاهدوها وفي الاستمرار في اللعب والانطلاق دون إدراك لما يدور في عالم الكبار من تنافس على الرزق أو تعاضد.

المكان مملوء بالحكايات فهناك عبرت بائعة؛ جدة عجوز كانت تريد من يوصلها لبرنامج الثامنة لتستنجد لإخراج ابنها من السجن الذي دخله بريئا لأنه اعترف بقتل ابنته ليدفع القتل عن زوجه التي قتلتها لأنها من زوجه الأولى المطلقة! ولو طالك الشك في صدق الحكاية سترى حفيدها الذي عاش لحظات حياة أخته وتتأمل حينها أن الواقع كما يقال أغرب من الخيال! وفي الحديقة يمكنك أن تلمح الفقد في عيون طفلة ترقب أبا يحمل أحد أطفاله كما كان والدها يحملها، لكن يدا صغيرة كيدها لا تقرأ ما في عينيها تمسك بها وتشدها وتأخذها لتلعبا ألعاب الصغار.

وربما رأيت أبا يمانيا حنونا يحضر ابنته ويدربها على المشي لساعات لتقوى عضلاتها المريضة وليخبر من حاولت الإحسان إليها أنها ليست فقيرة بل تملك عمارة في اليمن وأخرى هنا! وفي الطريق ستجد امرأة لا تزال طفلة تداعب أطفالها وتظهر للناس قالبا جميلا لقلب لم يعد مكانه قط! قالت يوما: بعد أن غاب عن حياتي أصبح يومي ناقصا!

في الأحاديث الجانبية للسائرين ستسمع ما يشي بثقافة المتحدث العالية وربما بعض الأسرار العائلية التي تخرج من فم غاضب يحاول أن ينهي مكالمة بسرعة.

في نهاية الأسبوع تلتمع في سماء الممشى أضواء متتالية من رشاش يطلق احتفالا بزفاف في قصر قريب وسيذكرك هذا الوميض بشرر اشتعل وحوادث وقعت في مناسبات مشابهة لتقول يا رب سلم.

أكثر أيام وساعات المكان صمتا وهدوءا عندما تقام مباراة هامة وقد يعقب الهدوء صخب وفوضى ترافق فوز فريق ما فترتفع الأعلام والهتاف والضجيج الفرح وربما زاد الأمر أكثر.

كل الحكايات المثيرة تمر عبر ثرثرة النساء أو حتى سخرية الساخرين من القواعد من رجال تفرغوا لمراقبة العابرين والعابرات أما المشائين فيشغلهم أن يقطعوا زمنا أكبر وينالوا مكاسبهم الصحية. في الأيام الصعبة تهب الرياح المحملة بالغبار الذي يتلف البضائع المعروضة فتهب نخوة شباب كان يمارس التسكع والثرثرة ليساعدوا النساء في المحافظة على ممتلكاتهن البسيطة من التلف.

وبعد منتصف الليل تبدأ الحديقة بتوديع مرتاديها ويبقى القليل من الرجال والنساء سائرين على خطوات ثابتة تقود بعضهم للصباح.

مع الأيام تحول المكان لمعلم يحظى بأوقات مميزة عند مرتاديه فيكون لبعض أصحابه غير الأوفياء أمثالي محطة ينتهي عندها آخر جهد النهار خاصة أيام العمل الشاقة.