يشكل النقد عنصراً جوهريا في الحياة الخاصة والعامة الفردية أو الجماعية من دول ومنظومات ومؤسسات مختلفة، للتغلب على الرؤى الفردية وسلطة الأنا وتأسيس مفاهيم البناء المجتمعي المتكئ على مجموعة الآراء والأفكار والتجارب.

ويمكن قراءة تعاطي المجتمع السعودي مع النقد عبر عدة أنواع منها:

- رافض للنقد جملة وتفصيلا، وهذا أخطرها.

- متعامل ضمن حدود ضيقة تتمثل في الردود الباهتة.

- متقبل ويسعى للاستفادة منه في حدود الممكن، وهذا أقلها وجوداً.

- مدع عدم تأثير النقد ومكابر يصرح بعدم اهتمامه به، وهذا أكثرها مكرا وخداعا.

النقد في حقيقته فرصة حقيقية للفرد والمؤسسات لتطوير أدواتها وهياكلها وإنتاجيتها، ولذلك فإن من لا يهتمون به هم أعداء الإصلاح والباحثون عن المصالح المختلفة، والراغبون في بقاء الحال على ما هو عليه لأنهم لا يملكون الرغبة أو الإمكانية أو كليهما للتغيير للأفضل، فتجدهم يحولون الأمور إلى أبعاد شخصية رغم موضوعية النقد، أو يتهمون أصحابها بالتهم المعروفة والجاهزة (المعلبة) التي يُقذف بها أي منهم بكل بساطة.

وتجد آخرين يجيشون الأقلام (المرتزقة) للدفاع عنهم والرد على منتقدي أدائهم أو أداء أجهزتهم، أو تكريس موظفي العلاقات العامة (فقط) لمتابعة ما ينشر والرد عليه والتقليل من مصداقيته أو نفي صحته بشكل أو بآخر.

وإذا كان النقد فرصة ذهبية للفرد للتعرف على أخطائه ونقاط ضعفه وتطوير أدواته وإمكاناته ومعرفة إيجابياته ونقاط القوة ليبني عليها ويعززها ليحقق النجاح والاستمرارية فيه؛ فإنه يصبح أغلى من الذهب للمؤسسات العامة والخاصة للوقوف على خدماتها أو منتجاتها أو منجزاتها أو مشروعاتها أو خططها واستراتيجياتها ومعرفة مختلف الآراء حولها سلبا وإيجابا، والتمكن من تقييمها وتعديل مسارها وإصلاح الضعف الذي يعتور بعض أشكالها أو إداراتها أو جاهزيتها أو مدى صلاحيتها ومواكبتها لما يراد لها أن تكون عليه.

ولا أعلم سبباً لهذا العداء أو الخوف من النقد الذي يصل إلى حد الفوبيا في مجتمعنا حتى إنه أصبح موجهاً فقط للانتقاد سلبياً، وفي اللهجة المحلية (لا تنقد علي) كمعنى غير مستساغ ألصق به البحث عن العيوب والمثالب، على عكس حقيقة الكلمة المصطلحية (النقد) التي تشكل في أساسها تبيين المحاسن والمساوئ، ثم تنطلق إلى عوالم أرحب وأوسع في مختلف التخصصات مع الاستعانة بعلوم كثيرة على رأسها علوم اللغة والاجتماع والعلوم الإنسانية الأخرى مع تطعيمها بالمعارف الأخرى في التخصصات العلمية.

ولعل بعض الكتاب الطارئين أساؤوا للعملية النقدية للمجتمع بتحويلها إلى تصفية حسابات وتحقيق مصالح معينة وتشكيل لوبيات لممارسة عمليات نقدية غير نزيهة سواء أكانت موجهة لأفراد أو مؤسسات، ولكن ذلك لا ينطلي على العارفين والمهتمين من ناحية، ولا يعني أنه ليس هناك عملية نقدية حقيقية وموضوعية في وسائل إعلامنا من ناحية أخرى.

لا أعتقد أن مواطناً محباً لوطنه ومنجزاته ومكتسباته لا يرغب في أن يرى كل ذلك في أجمل وضع ويدار بأفضل الطرق وأنجعها وأكثرها فائدة لأبناء الوطن والمستفيدين من إمكاناته والخدمات المقدمة له، ولاسيما أن الدولة تنفق المليارات سنوياً على ميزانيات تلك المؤسسات العامة، وتقدم حزماً مختلفة من التسهيلات والتفضيلات للمؤسسات الخاصة.

وطالما أن النقد يضع النقاط على الحروف بموضوعية واحترافية ومصداقية معتمداً على معلومات موثقة ويبتعد عن التهجم الشخصي أو الأهداف الخاصة ولا يعتمد التجريح، فإنه مطلوب بكل أشكاله وهو صمام الأمان للمجتمع أفراداً ومؤسسات، ويكرس مفاهيم العمل الجماعي وتراكم الخبرات وتوظيف الإمكانات والطاقات في أماكنها السليمة وبالطرائق المناسبة.

وإذا كانت مقولة: "رحم الله من أهدى إلي عيوبي" محفوظة في الكتب، فحري بنا أن نطبقها في واقعنا ونتعايش معها ولا نخشى منها وصولا للأفضل والأجمل من ناحية والوقوف على ما قدمنا وما سنقدم في المستقبل القريب والبعيد، أما الاتكاء على سلطة الزمان أو المكان ورفض النقد وتشويه أهداف ممارسيه والتشكيك في نواياهم أو وطنيتهم فذلك عمل الفاشلين والرافضين للتطوير والإصلاح ولا بد من الوقوف في وجوههم ومحاسبتهم، فليس هناك من هو فوق النقد إن أردنا الحق والحقيقة من قبل ومن بعد.

ونحن في شهر رمضان المبارك يمكن القول إنه معادل لما يقوم به النقد، فهو عملية نقدية روحية للذات ومدى قدرتها على التحمل والاستيعاب والإحساس بالآخرين ومعاناتهم واحتياجاتهم، وإصلاح ما طرأ على نفسياتهم أو شخصياتهم أو علاقاتهم أو أعمالهم على مدار عام كامل، وعلى قدر الاستفادة من هذه العملية النقدية الروحية يكون الفوز بالأجر والثواب وتحقيق أفضل الأهداف الدينية والدنيوية، والخروج بعد هذا الشهر الفضيل بالجوائز وتحسين العادات والمعاملات، وبناء ذات مرنة رائعة صبورة متقبلة للآخر وباحثة عن الجمال حسياً ومعنويا، ومقبلة على الحياة بإصرار ورغبة في العمل والإنجاز وتقديم الأفضل للفرد والمجتمع.

النقد هو تلك القوة التي تمنع من يريد خرق سفينة المجتمع جهلاً أو خطأ أو لأي سبب كان، لكي تتواصل مسيرتها تمخر عباب المشكلات والتحديات الداخلية والخارجية وتحافظ على مكانة الوطن في خارطة الأمم وبمعية صانعي الحضارة بعيدا عن أوهام وفوبيا النقد الزائفة لمن يعتقد أنه حجر أو جبل.