باستقراء تصريحات الرئيس الأميركي ووزيري خارجيته ودفاعه ومسؤولي إدارته، سنكتشف ببساطة أن حرب التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" الإرهابي يمكن استمرارها دونما مدى زمني محدد، وبالتالي تثور أسئلة مشروعة حول مسارات "الحرب العالمية"، التي دخلت مرحلتها الثانية بالقرار الأميركي بتوسيع ضرباتها الجوية لتدمير التنظيمات الإرهابية بسورية، ولنتجاوز "لعبة صناعة الإرهاب" المُريبة، لنتساءل عن مصير "الدواعش" القادمين من شتى الأصقاع، وإذا سلمنا بتحذيرات الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي، بخطأ رؤية الذين يظنّون أن مجرّد "جرعات مكثفة سريعة" للعمليات يمكنها إنهاء اللعبة التي ستستغرق سنوات لتصفية الدواعش، وتحرير المناطق التي احتلوها بالعراق وسورية.

ويبقى السؤال عما سنفعل بهؤلاء الذين قدرتهم الاستخبارات الأميركية بين 20 و30 ألف "قنبلة بشرية"، وهل هناك خطط للتعامل معهم؟ أم سيتركهم التحالف بعد سنوات من "حرب الاستنزاف" ليعودوا إلى بلادهم وينتشروا، لندخل مرحلة جديدة عنوانها "دوعشة المنطقة" كما حدث لمقاتلي "القاعدة" بعدما تركتهم واشنطن عمدا أو إهمالا لينفذوا سلسلة عمليات إرهابية شرقا وغربا.

تبرز أيضا ظاهرة "المجاهدين الأوروبيين" الذين انخرطوا بصفوف "داعش"، أزعجتها، فاستضافت بروكسل اجتماعا موسعا لوزراء الداخلية والعدل بدول الاتحاد الأوروبي، لاحتواء ظاهرة "دوعشة أوروبا"، لهذا ينبغي علينا مناقشة مخاوفنا بشأن "فائض الدواعش" مع التحالف الدولي بقيادة واشنطن، فليس مقبولا إعادة تدوير "القنابل الإرهابية" لندفع الثمن عدة مرات، إضافة إلى فواتير الدم والاقتصاد والاستقرار وتهديدات الأمن القومي العربي ونتائج الحرب التي تبدو غامضة، والمؤكد أن "خرائط المنطقة" لن تكون ذاتها قبل اندلاع مواجهات تنظيم تركه العالم ليتوحش ويتمدد ويسطو على آبار النفط تحت سمع وبصر أميركا وأوروبا.

تقتضي المخاطر المكاشفة، فمنذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ازدهر "بيزنس الإرهاب" بوضوح، فتؤسس قوى دولية "كيانات إرهابية"، وتنفق الملايين لشيطنتها إعلاميا؛ تمهيدا لجني ثمار "المواجهة الحتمية" لتكون منطقتنا الخاسر الأول، لكن السحر انقلب على الساحر، فها هي أوروبا تنتفض رعبا، وتتأهب لعودتهم بقوانين استثنائية، فألمانيا تعترف بلسان هانس جورج ماسن رئيس "الهيئة الاتحادية لحماية الدستور" وهو "جهاز الاستخبارات الألماني" بمشاركة نحو 400 متطرف انخرطوا في صفوف "داعش" وعاد نحو 130 إلى ألمانيا.

لكن يبقى السؤال: كيف يمكن مواجهة الإرهابيين العائدين، ولو اقتضى الأمر إسقاط جنسيتهم.

ووفقا لدراسة للمخابرات الألمانية للسير الذاتية لدواعشها خلصت لخطأ ترقب عودتهم، وأوصت باستباقهم بإجراءات احترازية. منها نزع جوازات سفرهم، ويوضح خبراء قانونيون منهم "راينهارت ماركس" أنه بوجود خطر يهدد الأمن والنظام العام، يجوز سحب جوازات السفر، لحظر سفرهم خارج الاتحاد الأوروبي، وفي فرنسا تبدو الأزمة أكثر تعقيدا وخطورة، وأعلن وزير داخليتها أن عدد "الدواعش" القادمين منها يقدر بنحو ألف شخص، ويبحث البرلمان قانونا لحظر سفرهم أسوة بإجراءات ألمانيا.

مخاطر "دوعشة أوروبا والشرق الأوسط" جدّية، إذ يلتحق هؤلاء بصفوف جماعات إرهابية، ويتعلمون قواعد حرب العصابات وتصنيع المتفجرات، ليشكلوا قنابل موقوتة لبلادهم عقب عودتهم، ولجوؤهم إلى دول تسودها الفوضى مثل ليبيا التي تشكل "بيئة حاضنة" مازال خارج حسابات التحالف الدولي، لكنها ستكون المحطة المُقبلة وهو ما تُدركه دول الجوار وأبرزها مصر والجزائر، فانتشار زهاء 300 ميليشيا هناك يقتضي اتخاذ إجراءات استباقية لمحاصرة "داعش الغرب"، بالتزامن مع التنظيم الأم.

وإذا كان عام 2010 شهد مبايعة أمير "الدواعش" البغدادي تلميذ الزرقاوي لزعيم "القاعدة" الراحل أسامة بن لادن، ففي مايو 2014 انشق عليها، واشتعلت ملاسناته مع أيمن الظواهري.

تبقى الإشارة إلى أن "داعش" تجاوز المفاهيم التقليدية للإرهاب، فبدلا من تنفيذ عمليات إرهابية عابرة للحدود، أصبحنا حيال "شبه دولة" تتمدد عبر الخريطة، وتفرض قواعد السمع والطاعة العمياء التي تُذكرنا بفرقة "الحشاشين" الإسماعيلية النزارية، التي أسّسها حسن الصبّاح نهاية القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، متخذا "قلعة آلموت" بفارس، وبعدها الشام عقب هجرة بعضهم لنشر دعوته التي أبادها هولاكو.

وبآليات ومناهج مدروسة أنشأ الصبّاح الحدائق الغنّاء، والقصور الفاخرة وزودها بالخمور والحشيش والجواري الفاتنات، ليُمثل الجذور التاريخية والأيديولوجية لتشكيل نفسية "الانتحاري المُستلب"، لهذا استقطب المُدمنين والمجرمين والمراهقين ليُشكّلوا وقود الأفكار العُصابية، واستبدلوا انحرافهم الإجرامي بالهوس الديني بتحولاتهم الجذرية من الانفلات الأخلاقي للتعصب الديني، ولعل سيرة البغدادي ذاته تستوجب دراسة نفسية أكثر مما تحتاج إلى فقهاء للتصدي لمنظومة "الدوعشة"، فهي حالات مرضية، وليست انحرافات عقدية كما يظن كثيرون.