أخذتُ أتأملُ مقولة مولانا الجاحظ، متحدثاً عن العرب:"وقد فخروا بالعمى وذلك كثير"، في كتابه: "البرصان والعميان والعرجان والحولان"، وجدتُ أن العرب كانوا إيجابيين جداً، عندما حوّلوا المحنة إلى منحة.

بل إن الجاحظ أقام كتابه ليتحدث عن أبرز العميان وأشعارهم وفخرهم واعتدادهم بالعمى، وهكذا الوضع مع المصابين بالعرج أو البرص أو الحول!

لم يكن العمى مثيراً للسخرية أو القلق. كان الناس يتعاطون معه في الغالب على أنه حدث طارئ ولا فضل لمبصر على أعمى، لهذا بقي الأعمى شفافاً في أحاسيسه الأخرى، وهو ما جعل الأعمى الشهير بشار بن برد، يـُنشد:

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحياناً.

يقول طه حسين عن تحويل بشار بن برد مأساة عينه إلى وسيلة للفخر: "كذلك أصاب الله بشاراً بهذه الآفة، فسلبه البصر، وكان إلى ذلك نابغة في الشعر، يكاد ينعدم نظيره في قوة الذكاء، وحدّة الذهن".

كان بشار كغيره من العميان النوابغ الذين تحولت عاهاتهم إلى وسيلة لإثبات عبقرياتهم جرياً على المثل الشعبي: "كل ذي عاهة جبّار".

يقول الجاحظ:"وأما من فخر بالعمى فمنهم بشار بن برد وكنيته أبو معاذ ولقبه المرعث مولى لبني عقيل وهو الذي يقول‏:‏

إذا ولد المولود أعمى وجدته ... وجدك أهدى من بصير وأحولا

عميت جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم معقلا

وغاض ضياء العين للعلم رافد ... وقلب إذا ما ضيع الناس حصلا

وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا".

قلتُ: كنتُ كتبت كثيراً عن العمى؛ أنه ليس عاهة كالعاهات الأخرى، بل هو ـ ربما ـ وسيلة لإبصار العالم بطريقة مختلفة. لم تكن حالة العمى مصيبة كارثية تحول بين الإنسان وإبداعه. وربما صحّ لي الآن ضرب مثل بفيلسوف وأديب هو: "بورخيس"؛ أحد أبرز الأدباء في العصر الحديث، وهو شاعر وقاصّ أرجنتيني والذي طعن الناس بجائزة "نوبل" لأن مثله لم ينلها.

كان يعشق القراءة والمطالعة، ويستأنس بمجيء ضيف يقرأ عليه ما تيسّر من الكتب. إذا قدّر لقارئ بورخيس أن يشاهد عوالم هذا الكفيف المدهش فسيتساءل: إذا كانت حروف بورخيس تضم كل هذه البصيرة والصفاء ... تضم كل العوالم والأحداث والخيالات؟! حينها أظن أن بعضنا سيتمتم بينه وبين ذاته: أظنّ أنني أنا الأعمى وليس بورخيس!

هذا نموذج واحد من نماذج إبداعية كثيرة غرق فيها تاريخ البشرية من المبدعين والفنانين والشعراء والرسامين. وكما أن بيتهوفن كان يعزف مع صمم، فإن بورخيس كان يكتب مع العمى...

لا غرو أن ما أنجزوه أفضل بكثير مما أنجزه معظم الأصحاء!