توقف شاب لينحني بقرب رجل متسول على قارعة طريق إحدى المدن الألمانية، ليسأله إن كان يمانع في أن يجلس بجانبه لبعض الوقت، التفت إليه الرجل بعيون متشككة، وأشار إليه بالجلوس، فتناول الشاب وعاء قريبا، وبدأ يقرع عليه ترانيم متناسقه بدأت تجذب فضول المتسول والمارة من حولهم، ومن خارج كادر المنطق ظهر شاب آخر بيده قيثارة ـ ودون استئذان ـ جلس إلى الجانب الآخر، ليبدأ في صوت ملائكي يعزف أغنية حزينة، ولكنها في ذلك المقام لم تكن كذلك، بل دعوة إنسانية التفت إليها المارة، وتوقف الزمان في تلك الزاوية من ذلك الطريق المكتظة بالإنسان والفارغة عن كل إنسانية، توقف البشر تباعا وبدؤوا في سكب عملاتهم المعدنية في قبعة مقلوبة على ظهرها احتفالا بذلك اللحن وبذلك الصوت وبتلك التجربة الحياتية التي أصبغت عليهم شيئا من اللون، توقف الشابان بعد دقيقتين عن القرع والعزف، ونهضا باستقامة ليضعا ما جناه إبداعهما الإنساني في يد المتسول وودعاه بكلمة شكرا لك.
لم يبتسم الرجل، بل بقي شاردا على الأطلال يرقب الشابين وهما يمضيان، وتساءل في استغراب: يا ترى هل كانا بشرا أم ملائكة؟!
إن كنا نعتقد بأن عمل الخير يأتي فقط من خلال ما تعلمناه وتعودنا عليه، وإن كنا عاجزين عن الخيال في عملية زرع الفرحة في قلوب المحتاجين، وبأنها لا تأتي إلا من خلال أنماط العمل الخيري المعتادة، فنحن ـ للأسف ـ مازلنا عالقين في أرواح محبوسة وعقول عاجزة عن الخروج من حدود ما يُملى علينا وجُبلنا عليه.
التسول من المظاهر غير المحببة وغير الحضارية في المجتمعات مهما تقدمت ومهما تكافلت، ولكن ـ في ذات الوقت ـ علينا أن ننظر إلى المحتاج بنظرة تتعدى الصور الذهنية المبرمجة مسبقا، فديننا الذي اعتمد التكافل أساسا للبناء الاجتماعي يدعو ـ كذلك ـ إلى ألا نطلق الأحكام المسبقة، وأن نحاسب كل فرد على ما ارتكبه من جرم، فإن كانت هناك مؤسسات تعمل على مكافحة التسول، فعلينا في الوقت ذاته أن نبحث وأن ندرس ونعالج أسبابه، فليس من المنطق أن يكون الحكم المطلق على عمل مبني على افتراض دون محاولة معالجة الأمر.
قصة الشابين والمتسول يمكن الاطلاع عليها في موقع "يوتيوب"، فهي ليست من خيال عقلي المبدع كما قد أحاول أن أوهم نفسي، فهناك بشر حقيقيون يعملون الخير فقط من منطلق أنهم يحملون في قلوبهم شيئا من الإنسانية، ودمتم.