يُولَد الإنسان ومعه بصمته تحملها رؤوس أصابعه لتقول إنه كيان فريد لا يشبه غيره، لكن هذه البديهة تظل في مكانها الفسيولوجي لا تتعدى وظيفتها في التحقق من الشخصية وأنّ فلاناً هو فلان وليس أحداً سواه. لم تنتقل هذه البديهة، أبداً، خارج وظيفتها الأولية ولم تتفعل في المجال الاجتماعي ولم يكن لها صدى في الحقل الثقافي. أنت فريد في "البصمة" وحسب، وما عدا ذلك دع فرادتك والتحق بالكتلة الصماء والسرب الموحد، وقد خطواتك إلى طابور التماثل والاستنساخ لتكون الصورة التي يرضى عنها الأهل في المنزل والشارع؛ ويقبل بها المعلمون في المدرسة؛ وتنال مديح الحزب إذا ما فكرت في إطار سياسي يستجيب لهواجسك وانشغالاتك. دع فرادتك وانسحب من أصواتك الداخلية، وادخل ـ بعنف أو سلام ـ إلى خيمة الوصاية لتشرب وتتشرب الاستسلام والإذعان. ... هناك من يخلص لمعنى بصمته ويجهر باختلافه. يعلن خروجه على القالب الذي تريده العائلة أو المدرسة أو المذهب أو الحزب أو حتى الزوجة والأصدقاء. يصدع نافرا من التشابه المميت ومنجذباً إلى أفق مفتوح يتوسع كلما ضرب جناج الحرية ضربته على النحو الذي يعالجه محمد بركات في كتابه "محاولات اغتيال علي ـ سيرة منزلية" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ـ 2014). وربما أول خروج يتجسد في هذه المعالجة أن الكتاب يند عن التصنيف الأجناسي الذي يطمئن إلى شكل أدبي فيرفع قلق التلقي وينسجم مع أفق الانتظار لشكل بعينه يميزه ابتداء فيقرأ تبعا لأعراف قارة لا تقبل بالتداخل. لأجل ذلك ينبه الكاتب في مقدمته أو إشارته الافتتاحية إلى أن (هذا الكتاب ليس رواية، ولا هو نثر، ولا مجموعة قصص قصيرة، ولا سيرة ذاتية). ينفي الشكل الثابت ويستجيب لسيولة الكتابة وتنقلها بين حقول مختلفة كما يعكسها فضاء الإعلام الجديد متنعما بحريته التي لا تستكين إلى نوع سابق في الكتابة وتصدر عنه بصورة ثابتة ودائمة. هناك مساحة فارة من الجموع والأشكال والتكرار، وتمتلئ باقتراحات شتى من التعبير الكتابي تسع الحالة الإنسانية وفرديتها وتمضي معها في أية صيغة تختارها. يضع محمد بركات القيد جانبا، ويذهب إلى لحظته الاجتماعية والسياسية والدينية في لبنان، والمتفجرة منذ 2005 باغتيال رفيق الحريري مروراً بأحداث 2008 إلى زلزلة الربيع العربي وتوابعه التي لم تهدأ. يرسي نواة حكائية، أقرب إلى التأطير أو بذر علامات استهدائية للقارئ توجه إلى المكان والظرف والزمان والعلاقة، ويترك تلك النواة متقصداً دون إرواء لتنمو وتتفرع في شبكة روائية معلومة تزخر بالحدثية والتصعيد الدرامي. يكفي السارد أن يشير إلى بطله "علي" وتعيينه مناطقيا ومذهبيا وارتباطه عاطفيا بامرأة تختلف عنه مذهبيا وعقائدياً بالمعنى الآيديولوجي. * كاتب سعودي