غياب الرؤية ومحاولة "ترقيع" أي مشكلة دون حلها، بحجة أن الزمن كفيل بالحل، من أخطر ما يواجه أي تنمية بشرية، ويضعها في مأزق التعامل مع المتغيرات الزمانية والمكانية، حيث يتم التعامل مع جميع الأمور من مبدأ ردة الفعل الوقتية، التي قد تكون موضعا لـ"تسمين وتدجين" المشكلة بدلا من حلها.
فمثلا، عندما اكتشفنا قبل سنوات قليلة، أن من مسببات عدم إيمان البعض بمسمى "وطن" أو "يوم وطني" بل ومحاربة المسمى سرا وعلانية، ولو بأساليب ملتوية، هو أن النشء في مدارسنا لم يعرفوا هذا العرف العالمي، ولم يشعروا يوما أنهم جزء من كيان يجب أن يبقى متماسكا، وأن مصيرهم ومستقبلهم مرتبطان بوجود دولة تحمي القانون وتطبقه على الجميع سواسية. فسارعنا إلى إقرار مظاهر احتفالية كبيرة بهذا اليوم، الذي لا شك أنه يوم تاريخي في حياة جميع من انضم تحت لوائه، والجميع يلمس ذلك حاليا خصوصا في ظل الأحداث والنيران المشتعلة في كل شبر حولنا.
لا يمكن إنكار أن هذه المظاهر أثرت بشكل جيد في تفكير الكثير من أطفالنا، فأصبحوا يتساءلون.. لماذا نلبس اللون الأخضر ونحمل الأعلام في هذا اليوم؟ بل إن بعضهم وهذا ما لمسته في أبنائي أصبحوا يفرحون بقدوم هذا اليوم ليس بسبب إجازة اليوم كما يظن البعض، بل لأن هذه المناسبة، تكسر حاجز الملل لديهم من روتين محاضن التعليم لدينا، وتعطيهم مجالا للفرح الوقتي.
لكن المشكلة الواضحة للعيان، هي أن هذا الاحتفال مازال يلامس القشور والمظاهر فقط. فلم نجد حتى الآن مبادرات وطنية حقيقية يشعر فيها المرء بأن هذه المناسبة ستكون تكريما لرموز فكرية أو وطنية كان لها دور بارز في مسيرة الثقافة أو البحث العلمي أو الخدمة الاجتماعية. كذلك كل الفعاليات الثقافية أو الاجتماعية لا تمس هموم وشجون المواطن بشكل مباشر. فما الذي يمنع أن يكون الاحتفال باليوم الوطني فرصة لتدشين مشروع فكري واجتماعي يناقش مشكلاتنا الحالية على مستوى الثقافة العربية والإسلامية والوطنية، بكل شفافية، بحيث يكون معلنا ومحدد الأهداف ولا نقتصر على إشارات من هنا أو هناك يتولاها أفراد باجتهادات شخصية، فالقضية هنا وطن أشمل من رؤية فردية، وهذه مسؤولية الجهات الحكومية الرسمية.
لنكن صادقين.. لن تترسخ أي مناسبة أو حدث في أذهان الناس، ولن يخلدها التاريخ بناء على نتائجها العملية، إلا إذا ارتبطت بانطلاق مشروع نهضوي خصوصا في مجال الفكر والتنمية الحضارية. فما الذي يمنع أن تكون مناسبة اليوم الوطني كل عام، مرتبطة بإطار عام يتم النقاش حوله بكل شفافية، مثل موضوعات "الإصلاح" بكافة أشكاله السياسية والاقتصادية والفكرية أو "التطرف"أو "الفساد ومشكلات التنمية" أو غيرها من همومنا الوطنية الكثيرة. والأهم من النقاش، أن تكون هناك خطة عملية ومجدولة زمنيا لتنفيذ ما يتم التوصل إليه، بحيث يرتبط كل عام بمشروع وطني يتم التركيز عليه والعمل لأجله من جميع الجهات الحكومية أو الخاصة.