مهما امتدت حياة الإنسان وتخللتها تجارب متفاوتة ومواقف مختلفة وظن أنه وصل إلى كمال المعرفة بأمور الحياة أو بعضها، يبقى العلم نهرا يستمر في جريانه وتدفقه حاملا معه الجديد والغريب والنافع في كل لحظة ومع كل رفّة عين أو تهدّج نفس. التوقف عن متابعة هذا التيار المتدفق من العلوم والمعارف والتجارب ومحاولة محاذاته ولو بالسير بجوار ضفة نهر الحياة، ستكون عواقبه قاسية على تطور شخصياتنا وحياتنا الخاصة والعامة وعلى بناء مجتمعاتنا وأوطاننا.

أبدأ بهذه المقدمة وأنا أخوض تجربة فريدة من نوعها كنت فيها، وما زلت، أجلس بخشوع في مركبها وأتماهى مع تيار المعرفة الذي ينقلني من وقت لآخر بين كنوزه وفرائده. فخلال الاثني عشر شهرًا الأخيرة كنت ضمن مجموعة مختارة من جميع مناطق المملكة للعمل مع المشروع الكبير لتطوير التعليم، ممثلا في مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام، الذي تتبناه وزارة التربية والتعليم بالرعاية والمتابعة والحرص على التطبيق لنتاجه.

يهدف هذا المشروع في مرحلته الأولى التي امتدت الفترة السابقة وما تبقى منها إلى تطوير مهارة أساسية في تعلم وتعليم اللغة الإنجليزية، وهي مهارة الكتابة. ورغم الصعوبة في تقبل فكرة أن نبادر في تطوير اللغة الإنجليزية من خلال مهارة الكتابة أولاً، والتي استهجناها كمشاركات في البدء، إلا أن الأهداف العميقة خلف البرنامج والاستراتيجيات المتبعة حتى الآن تُثبت أنها خطوة أولى موفقة وكبيرة وجريئة للمضي في الأمر بشكل أوسع وأشمل وجاد. فمع الوقت نكتشف من خلال الكتابة خاصة كتابة القصة المحكية "narrative story" نستطيع تحقيق عدة أهداف تعليمية وتربوية ونفسية للطلاب وتأسيس لبنة قوية يتبعها الطالب في حياته تخرجه من مجرد متلقٍّ للعلم، إلى متعلم باحث ومتحدث جيد يسعى خلف المعلومة ويقبض على الفكرة ويطورها حتى يصنع منها شيئًا ملموسًا ومقبولاً وناجحًا، وهذا ينعكس بالإيجاب على القيم المكتسبة داخله ويزيد من تقديره لذاته ولجهود الآخرين. وكل هذه الأمور تصب في صالحه كفرد يحاول التعليم أن يخلق منه مواطنا نافعا لنفسه ومجتمعه.

الأمور في بداياتها تعتريها الغرابة والاستهجان، وهذا ما حدث مع بداية هذا البرنامج المستمر حتى حين، ولكننا الآن نشعر باختلافه ونتلمس أن نجني ثماره قريبًا وأن يكون خطوة فارقة في تغيير مسار التعليم، ليس للغة الإنجليزية وحدها، بل لجميع المناهج الدراسية في التعليم العام. ونعلم أن الصعوبات لا تزال قائمة مع التطبيق في أرض الواقع وفي الميدان الأول لمثل هذه البرامج (المدرسة). استطعنا التغلب في الخطوة الأولى نحن كمتدربين ومتدربات بفضل الله ثم بفضل الجهود التي بذلها المسؤولون عن هذا البرنامج التابعون لمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم، وبالتعاون المثمر والعملي مع المسؤولين من جامعة كولومبيا التي تقوم بالتدريب بشكل مباشر.

يمثل مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم نظرة طموحة وإيجابية تهدف للنهوض بالوطن من خلال التعليم، وهذا ما تقوم به الدول المتقدمة والتي وصلت لمصاف الدول الأولى بسبب تعليمها المطور والمتناسب مع احتياجات الحياة المعاصرة والمتسارعة بشكل كبير، فيقوم بشكل دائم بالتخطيط والتنفيذ لمشاريع وبرامج تهدف للتأكد من كفاءة التعليم لدينا وتسعى لتحقيق أهداف واتجاهات الوطن وقيمه والمشاركة في التنمية المستدامة من خلال طلابها وطالباتها وتعليمهم. ومن خطط هذا المشروع العامة أيضًا، بالإضافة لتحسين المناهج وتطويرها، من خططه التطوير المهني المستمر للعاملين في التعليم وعلى رأسهم المعلمون والمعلمات، الذين يشرفون بشكل مباشر وعملي على هؤلاء البراعم المتحفزة في بداياتها للتعلم والاستزادة ما لم تواجهها أرض بور أو يد قاسية.

الميزانية المليارية التي تُبذل في هذا المشروع الواعد منذ سنوات سنستطيع الحصول على ثمرها إن كان هناك تعاون حقيقي وتطبيق ميداني مباشر للبرامج الهائلة والمتطورة التي تقام من وقت لآخر، وما زالت قائمة أو طور التنفيذ. الفجوة بين الإدارة المركزية للوزارة وإدارات التعليم، والتخبط بين ما يُسعى لتنفيذه والقديم القائم، والتحليق خارج السرب أحيانًا بسبب تعارض ما يطمح له مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام وبين المقررات الموجودة فعليًا والبيروقراطية في البت في تنفيذ المشروعات والبرامج، جميعها عوامل تؤخر الأهداف التي تسعى لها الوزارة ويحتاجها الوطن بشكل فعلي.

جميعنا نطمح أن يكون تعليمنا محرضا على الإبداع والابتكار والتغيير الذي تسعى له الحكومة بشكل عام ووزارة التربية والتعليم بشكل خاص، الذي يهدف لتحسين الوضع التعليمي في المملكة، ونحلم أن تكون لدى أبنائنا القدرة على التعلم الذاتي والحرص على الاستزادة من العلم بكل فروعه والمشاركة في نهضة تنموية واجتماعية وشخصية تنطلق من إحساسهم بأهمية التعليم. الطموح يبدأ بخطوة واحدة جريئة للأعلى، والأحلام تُصبح واقعًا إن تضافرت الجهود ووجد الإخلاص واستشعار المسؤولية التي بين أيدي العاملين في ميدان التعليم. والتغيير الذي يبدأ من رأس الهرم لا يكفي أن يبقى فيه فقط، بل عليه أن يشمل كل الطبقات التي تمتد للقاعدة المفترض فيها الصلابة والثبات ليكون البنيان كما نحب ونتمنى.

تحية صادقة وإكبار للجهود العظيمة التي يسعى لها مشروع "تطوير" في كافة الأصعدة، وآمل أن يستمر في تنفيذ خططه واستيعاب أعداد كبيرة من جميع العاملين في التعليم والاستفادة من تجارب الدول المتميزة في التربية والتعليم وإشراكهم في التطوير. وتحية خاصة لفريق كولومبيا جميعًا، الذي استشعر أنه نواة قادمة لتغيير شامل في مجال المناهج وطرائق التدريس وبناء شخصية الطالب والمعلم.