ذكر لي أحد أعضاء مجلس الشورى وصفا للأعضاء فقال: "الظاهر أنك تعوّل على أعضاء المجلس كثيرا، متناسيا أنهم يمثلون كل شرائح المجتمع"، وكنت أظنه وصفا غير دقيق، ولم أفهم عبارة "كل شرائح المجتمع" كما يجب، إلا عندما قرأت في "الوطن" خبرا عن انشغال بعض عضوات مجلس الشورى بمكياج المذيعات في التلفزيون السعودي، عندها تذكرت من باب المفارقة تلك السعادة التي غمرتني مع امتنان كبير لتلك الفتاة التي تحملت من أجل بلدها سخط المرتبكين الوجلين المترددين في معرفة موقعهم من التاريخ والعالم، تلك السعادة مع دموع بأطراف العين لمرأى العداءة السعودية الأولى "سارة العطار" وهي تشارك في سباق الثمانمئة متر في الأولمبياد العالمي، وقد وصلت متأخرة، ولكنه خير من ألا تصل أبدا، وأتخيل هؤلاء العضوات المشغولات بمكياج المذيعات، لو كن يعملن في رعاية الشباب، هل سيعترضن على لبس "سارة العطار" للبنطال أمام الجماهير!، أم سيكن مشغولات بضرورة تفصيل "تنورة خاصة للجري؟!"، وكيف بهن إذا تم طرح تساؤل حقيقي عن ضرورات "الفيفا" وشروطها لإشراك المرأة في الألعاب الرياضية، التي أوجدت في مجتمعنا أيضا عبر الطليعيات من بناتنا فارسات للخيل، حققن نتائج تستحق التقدير.
كل هذا مرّ بذاكرتي على عجل، ولكني تذكرت الخلط الكبير الذي يصيب البعض عندما يتسنم منصبا أو مكانا اعتباريا، يعيد للأذهان مشكلة ذلك المدير الذي اضطر الموظف أن يذكره بكل قسوة وأدب: أن يفرِّق بين أولئك الذين يعملون عنده، وأولئك الذين يعملون معه، فالذين يعملون عنده هم السائق والعاملة المنزلية، أما موظفو الدولة فهم يعملون معه، وعليه فمن حق عضوة الشورى الموقرة وكل من يوافقها أن يشترط في سائقه أو عاملته المنزلية أن تكون دميمة الخلقة، قليلة الفهم لحقوقها الإنسانية، تجيد هز رأسها بالسمع والطاعة! "أشبه بجارية رغم انتهاء زمن الرقيق"، والأنكى أن تجد رجلا أشغله جمال المذيعة فيحتال على إطرائها ـ الذي لا يليق بوقاره ـ عبر تذكيرها بأهمية الحجاب، رغم أن أستوديو التصوير المباشر ليس محلا لموعظته بقدر ما هو تملق لأنصاف المواقف وأنصاف المبادئ بين غريزته التي تحرجه أمام متابعيه فيهذبها بوعظ غيره، وبين جمال يذكره بضرورة تهذيب نفسه، وإلا فما النخوة والشهامة والمروءة إن لم تكن نفس مهذبة لإنسان نبيل.
مازلت أذكر ذلك الحديث مع أمينة مكتبة في إحدى الدول العربية، قبل ما يزيد عن أربعة عشر عاما، وكنت أفكر بذهنية ليست ببعيدة عن ذهنية بعض عضوات الشورى الموقرات، فقلت لها مستنكرا وضعها للمكياج: "هل الحرية في وضع المكياج؟ يكفيك حجابك هذا دون مكياج، فقالت لي بكل احترام وأدب: رغم أن هذا شأن شخصي ولا يخصك، إلا أني سأجيبك، فالمكياج أضعه ليظهر الفارق بين امرأة لم تغسل وجهها من النوم، وامرأة مستعدة للعمل، مثلك تماما فأنا أراك تحضر للمكتبة وأنت بكامل أناقتك، فما الفرق بيني وبينك؟! أما الحرية فليست في وضع المكياج من عدمه، ولكنها في احترام خيارات الآخرين فيما لا يعني غيرهم، ويبقى تساؤلك الذي ضايقني ويضمر اتهامات لن أخوض فيها، فربما إن لم يخب ظني في لهجتك، أنك قادم من مجتمع يعتريه سوء الظن بالمرأة، مما يجعلني أعذرك، فقد قيل لي أنكم ترونها قرينة الشيطان".
طبعا أنكرت هذا، ولم أخبرها أن حتى هذا النقاش لو حصل في المملكة فلربما قفز على ظهري أحد "ضباع الهيئة" الذين يبذل رئيسهم ـ أعانه الله وسدد خطاه ـ ما يشكر عليه لجعلهم أُسودا حقيقيين في خدمة دينهم ومليكهم ووطنهم بشكل يليق بزمانهم ورؤى قيادتهم، دون إحراج داخلي أو خارجي.
مازلت أذكر بدايات التلفزيون السعودي وحكايا الرجال والنساء عما في ذلك الزمان من قفشات تثير الضحك والسخرية في زمننا هذا، فالأولى تشاهد التلفاز وهي منقبة لأنها تصر على أن مقدم البرنامج يتحدث إليها وينظر فيها!، وآخر تفارقه زوجته إلى منزل أهلها لأن زوجها دائما يعايرها بأنها ليست بأناقة ولا جمال "سميرة توفيق"!، وأما أحدهم فمازال يناقش منكرات التلفاز حتى هذا اليوم كما يفهمها هو، ومتمسك حتى الآن بفتوى "تحريم التلفاز" الصادرة من أحد أعضاء هيئة كبار العلماء رحمه الله، رغم أن وزارة الثقافة والإعلام قامت مشكورة بإنشاء قنوات متعددة بتنوع الشرائح والتوجهات الاجتماعية في المملكة، وبإمكان الشخص عبرها وبضغطة زر أن يختار ما يناسبه ويناسب أسرته ومفاهيمه الخاصة، ولينصرف عما لا يعجبه، لكنه القفز والتقحم الذي اعتاده البعض تحت ذريعة الدين أو العادة، فحتى الشيخ الطنطاوي ـ رحمه الله ـ لم يسلم من هؤلاء، عندما تذمرت إحداهن من رؤيته دائما فقال لها: أغلقي التلفاز، أما الآن فليس إغلاقه ضروريا بل إن قنوات وزارة الثقافة متعددة لتتناسب وتعدد الشرائح الاجتماعية الموجودة في المملكة عموما وفي مجلس الشورى خصوصا!
إلى صديقي عضو مجلس الشورى الموقر: لقد فهمتك الآن عندما قلت: إن مجلس الشورى يمثل كل شرائح المجتمع، فعلا يمثل كل شرائح المجتمع من قناة الصحراء، إلى قناة العربية، ولكن ما لا أوافق أي عضو مجلس شورى عليه: أن يتوهم في نفسه أنه كل المجتمع السعودي، وألا يفرق بين التوصية التي تطرح للتصويت والوصاية التي تتدخل في التفاصيل الشخصية للأفراد: كيف يلبسون، وكيف يأكلون، وكيف يشربون، وكيف يمشون، وكيف يعيشون، فهل عرفتم الآن لماذا العائلات السعودية تكره أن تلتقي بعضها خارج السعودية؛ لأن كثيرا من هؤلاء مشغول بخصوصيات الآخرين من بني جلدته، فهل هناك من أعضاء الشورى الرجال من ينبري ليخرج علينا بتوصية/وصاية أخرى تخص المذيعين؛ كي لا يفتنوا النساء في المنازل؟!
وكما قال أحد أفراد "داعش" في برنامج وثائقي بريطاني عندما سأله: ألا ترى أن ما تفعلونه تدخل في حياة الناس، فأجاب بنفس راضية مطمئنة: "ربما يكون تدخلا لكنه تدخل إيجابي في سبيل الدين والحق، فإن قبلوا وإلا فالعقوبة الشرعية"!
شكرا لك أيها الملك العظيم، إذ كنت خادم الحرمين الشريفين لمليار مسلم يستقبلون الكعبة ويشدون الرحال إليها على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وعاداتهم ولغاتهم وبلادهم وأعراقهم، يجيئون بالملايين إلينا أهلا ويرجعون سهلا، فما أصعب الحِمل، وما أعظم الرسالة، نختصم في "الشورى" على مكياج مذيعة، ويختصم العالم من حولنا على التطرف الإسلامي، وكأني بك معنا وبيننا ترفع كفك مناضلا دوننا بتوجيهاتك هنا وهناك، فإذا استنكر بعضنا ما لا يدركون مما قد سبق به أجدادهم المتحرزون لدينهم من لبس العقال! قلت بقلب المؤمن: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" تأسيا بحِلم النبوة عن الغافل، أما الصائل فيومه قمطرير.