يحتل اليمن موقعا استراتيجيا ممتازا جدا يطل على قارتين: "آسيا ـ أفريقيا"، ومواقع ملاحية هي شريان لثلاث قارات: "آسيا، أفريقيا، أوروبا"، وهذا يعطيها أهمية خاصة لمنظومة دول الجزيرة العربية، ويجعلها العمق الاستراتيجي المنطقي لها جغرافيا وسياسيا وأمنيا، إذ يشكل موقع اليمن على القرن الأفريقي، نقطة الدخول الرئيسة إلى البر الآسيوي، والمنفذ الكبير لكل هجرات القرن الأفريقي، وتسهل ذلك جزره المنتشرة في البحر الحمر وخليج عدن على شكل أرخبيلات ضحلة.

وهنا يمكن أن يستثمر اليمن لجهات بعينها لها مآربها السياسية، وهو ما تفعله الآن إيران تحديدا.

والمشهد السياسي الآن خطير جدا، ولا يبشر بالخير على المدى القريب على أية حال، وهو مريب إلى حد بعيد أيضا، فالقوى المتصارعة في اليمن، لديها الاستعداد التام من ناحية امتلاكها للسلاح أو العنصر البشري، أو الطموحات السياسية، وتقف خلف المتصارعين في اليمن قوى خارجية، لها مشاريعها السياسية الدولية، وتلعب إيران حاليا، نفس لعبتها السياسية التي نفذتها في لبنان سابقا، وأكدت وجودها بحزب الله اللبناني، إلا أنها لعدة أسباب لم تستطع السيطرة على كرسي الرئاسة، لكنها في اليمن تطمح الآن، بل وتعمل بجدية على السيطرة عليه من خلال حركة "الحوثيين"، باستغلالها للوضع اليمني، لتضغط من خلاله على دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا التوجه السياسي ليس غريبا أو وليد اليوم، لكن التذكير به دوما مطلوب.

لقد فشلت الحكومات المتعاقبة في اليمن، في تقدير قوة التحركات الحوثية، على الرغم من علمهم بالدوافع، ومن يقف خلفها، وظهر العجز الحكومي مبكرا؛ نتيجة صراع الأجنحة داخل الجسد اليمني، والأطماع الشخصية لقياداته، وكان الفقر أشد الأسلحة التي لعب على وترها كل الأطراف، ليكون ذلك على حساب الإنسان اليمني بكل أسف.

والواضح أننا أمام تحولات كبيرة يحاول الحوثيون فرضها، تقتضي تغيير الطريقة والأسلوب الحركي، بل ثلاثة أرباع الاستراتيجية الداخلية الحالية مقابلها، بما يحقق الأهداف من العلاقة، والمصالح المشتركة، والواضح أيضا أن اليمن مقبل على مرحلة جديدة من الحكم السياسي تحت سيطرة الفكر السياسي الحوثي، وهو ما يقوله مشهد الشارع الحوثي الذي يحاول انتزاع أكبر قدر من المكاسب السياسية على الأقل في الوقت الراهن، "ولا أظنه سيتراجع عن تحقيق أهدافه عما قريب".

يجيء هذا وسط تحالفات واتفاقيات من تحت الطاولة، بين خصوم الأمس، وإن استمات البعض في التنصل من ذلك، إلا أن الأمر ظاهر للعيان وبجلاء أيضا، وما يدعم ذلك هو سيطرة أطراف فاعلة في النزاع كحزب المؤتمر، على كثير من الفصيل البشري في المؤسسة العسكرية اليمنية، وهو ما يؤكده "العميد محسن خصروف" في حديثه عن ذلك بقوله: "إن هيكلة الجيش والأمن لا بد أن تكون على كل المستويات رأسيا وأفقيا، وأن تشمل كل القيادات العليا والوسطى والدنيا، بما في ذلك قادة الكتائب والسرايا وحتى الفصائل.

وشدد "خصروف" على ضرورة أن تشمل الهيكلة الكثير من القيادات التي عليها الكثير من علامات الاستفهام، والإتيان بقيادات عسكرية وأمنية تحظى بحس أمني ووطني عاليين، وتلتزم للوطن وقضاياه، وتعمل بمهنية عالية خارج كل الولاءات السياسية والحزبية والمذهبية والطائفية والمناطقية وما في حكم ذلك، لافتا إلى الأهمية البالغة التي تحتم على أن تكون القوات المسلحة والأمن تحت سيطرة القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن في البلاد، وانقيادها للحكومة والسلطة المدنية".

وهذا يظهر كأحد أكبر العقبات في طريق الحصول على اتفاقيات عادلة تحسم الخلاف في اليمن، وأستبعد حاليا قيام حرب أهلية، في ظل الفقر عميق الجذور في المجتمع اليمني، ولتقدير اليمنيين لمعنى وقوة السلاح وبطشه فيما لو انفلت. واليمنيون عموما لا يسمحون باستخدام السلاح عرضا، فذلك محظور في العرف القبلي، والحوثيون الآن يحاولون كسب المزيد من التعاطف لتحقيق أهدافهم، ويتعمدون المواجهة مع الحكومة لسقوط ضحايا، ومن ثم رفع وتيرة المواجهة إلى درجات أعلى تتيح لهم استخدام السلاح بموافقة أو بدعم شعبي، وهو أمر كبير الأهمية بالنسبة لهم، سيبرر انفرادهم بمقاليد كل شيء في البلاد لاحقا.

وهم الآن أمام فرصة تاريخية لن يفوتوها مهما حدث، وما وصلوا إليه ترجمة حقيقية لواقع التخطيط الجيد من قبل مفكر عسكري خبير "إيران".

أما الجانب السياسي الآخر والمهم، فيتمثل في استقرار الرأي الأميركي على اختيار الحوثيين كحليف قادم في اليمن، ذلك أن تصاعد القاعدة يشكل لهم تهديدا كبيرا يقض مضاجعهم، ويأتي ذلك استنادا إلى أن الفكر الشيعي ومعتنقيه لم يطلقوا يوما رصاصة على القوات الأميركية، ولم يثبت يوما أن شيعيا قام بتفجير نفسه أمام مصالحهم، كما لم تتبنّ أية فصائل شيعية أيا من العمليات الحربية ضد الأميركيين، لا في العراق ولا في غيرها، إضافة إلى القناعات السياسية الأخيرة التي تظهر في تصريحات المسؤولين الأميركيين بين حين وآخر، ومن هنا يمكن القول: إن الحوثيين ربما يشكلون مستقبل اليمن السياسي، وقد تكون الحسابات التالية غامضة إلى مستوى ما قد يصعب معه تعيين الحلفاء، أو الخصوم، أو الفرقاء.