التفكير في هذه المقالات متوجّه لما يمكن أن نفعله لنرفع مستوى التواصل في علاقاتنا مع الآخرين. هذا يعني أن يرتفع مستوى احتمال حصولنا على أصدقاء وأحبة. ربط التواصل بالصداقة والمحبة ناتج عن التفريق الأساسي الذي انطلقنا منه وهو أن الإنسان يرتبط مع من حوله بنوعين من العلاقات: العلاقة الأولى هي العلاقة الاستعمالية، بحيث يكون الآخر سواء كان إنسانا أو حيوانا أو جمادا وسيلة نصل من خلالها لأهدافنا.

العلاقة الثانية هي العلاقة الحوارية، التي يظهر لنا الآخر لا كوسيلة بل كغاية في ذاته. الصداقة والمحبة تنتمي للنوع الثاني ولذا فإن التواصل هو الطريق إليها.

الصداقة والمحبة بلا حوار علاقة استحواذ وتملّك أو استعمال. يقول مارتن بوبر صاحب التفريق السابق "الحب بلا حوار علاقة شريرة". إذا كانت المقدمة السابقة صحيحة فإن التواصل هنا يصبح ضرورة من ضرورات الحياة السعيدة ومن الطبيعي أن تكون هدفا يسعى الإنسان لتحقيقة باعتبار أن الإنسان كائن يسعى لتحقيق سعادته. وصلت المقالات السابقة إلى أن تحقيق التواصل مشروط على الأقل بشرطين أساسيين: الانفتاح والتسامح. تحدثنا في المقالين السابقين عن الانفتاح والآن حان الحديث عن التسامح.

التسامح باختصار يعني ألا يؤدي الاختلاف إلى قطع التواصل. الإنسان غير المتسامح هو من يعني الاختلاف عنده القطيعة، وبقدر ارتفاع حساسيته من الاختلاف تتناقص معدلات تواصله مع الآخرين. نلاحظ هنا أن التواصل المقصود هنا ليس مجرد العلاقة الاستعمالية، فغير المتسامح لا يمانع من استعمال الآخرين. المقصود هنا هو العلاقة الحوارية. بمعنى أن غير المتسامح يجد صعوبة في الحوار مع الآخرين. الحوار هنا يعني احترام الآخرين رغم اختلافنا معهم. بمعنى أننا نعتقد أن بيننا وبينهم ما هو أعمق وأعم من التوافق الفكري. بيننا علاقة إنسانية متأسسة على وجود كل منا مع الآخر. التسامح هنا يعني أن نقبل العيش في مكان واحد بطرق مختلفة أو أن تعكس طرق حياتنا الاختلاف والتنوع الموجودين أصلا في الطبيعة من حولنا، وفي تركيباتنا النفسية والذهنية. هذا لا يعني بالضرورة أن التسامح موقف طبيعي أو بديهي بقدر ما يعني أنه وعي وإدراك لشروط الاجتماع من الآخرين.

التسامح ليس بديهيا لأننا ورثنا ثقافات غير متسامحة. ثقافات قامت ولا تزال على معادلة القوة. الأقوى يملك السلطة وفي أحسن الأحوال يعد الأضعف بالعدل. بمعنى أنه يشترط أولا أن يكون هو في مستوى أعلى من الآخرين، ثم يمنّ عليهم بعدالة تبقى غالبا في حدود الوعود ولا تترجم إلى واقع. يشير البعض إلى فترات تاريخية اجتمع فيها المختلفون كفترات تسامح. مجرد اجتماع المختلفين لا يكفي.

السؤال الحاد الذي يكشف مستوى التساح هو عن المعادلة التي جمعت أولئك المختلفين. هل كانت جماعة منهم تمثل الغالبية تحظى بالمواطنة من الدرجة الأولى وتمت إزاحة الأقليات إلى مواطنة من الدرجة الثانية والثالثة؟

إذا كان الجواب بنعم فإن العلاقة هنا ليست علاقة تواصل بل علاقة استعمال وبالتالي ليست علاقة تسامح.

هل يمكن وجود تسامح دون تواصل؟ نعم. التسامح هنا شرط للتواصل ولكنه لا يضمن تحقيقه. بمعنى أنه شرط ضروري ولكنه ليس كافيا. الأكسجين مثلا شرط للحريق، ولكن وجود الأوكسجين بحد ذاته لا يكفي لحدوث الحريق. التسامح بهذا المعنى يعني التسامح السياسي ولا يصل إلى التسامح الفكري والنفسي.

التسامح السياسي يعني أن أقبل بوجود المختلفين معي في ذات الجماعة السياسية "الشعب" بحقوق متساوية، ولكني في ذات الوقت أحتفظ بأحكامي الحادة والقاطعة تجاه أولئك المختلفين. هذا غالبا ما يكون تسامحا باسم الضرورة. بمعنى أن البلد قد تتوافر فيها موازنة متعادلة للقوى تجعل من الأطراف يحجمون عن التفكير في القضاء على بعضهم لأن الكلفة ستكون مدمّرة للجميع. هذه الموازنة تجعل من هؤلاء الأطراف يتوافقون على العيش المشترك بدون الدخول في علاقة تواصل حقيقية. بمعنى أن كل طرف يعتقد أن احترام اختلاف الآخر وسيلة لاستقرار الجماعة السياسية الضرورية.

التسامح الفكري والنفسي في المقابل هو الذي يدفع باتجاه التواصل الإنساني؛ لأنه باختصار هو من يجعل من الاختلاف أمرا لا يبرر القطيعة.

القطيعة بين الناس غالبا ما تتأسس على ربط الاختلاف بمعاني منفرة. بمعنى أن تتولد مقولات تربوية وثقافية تضع المختلف في قالب لا يمكن تحمّله. مثلا الثقافات غير المتسامحة تجعل من لا يختلف معها في طريقة عيشها قذر على المستوى المادي وقذر على المستوى الأخلاقي. بمعنى أن المختلف هنا هو حالة ممسوخة عن الفطرة السليمة. كانت هذه الفكرة وماتزال ضرورية لتجهيز أفراد الثقافة لقتل الآخرين متى ما طلبت الضرورة. الفكرة هنا أن الإنسان يصعب عليه قتل الإنسان، ولذا فإن الثقافات غير المتسامحة ترسم صور لا إنسانية للمختلفين. صور أقرب للحيوانات والشياطين. هذه الصورة تجعل من القضاء على المخالف عملية أسهل ويمكن التحفيز لها.

في المقابل الثقافات المتسامحة تجعل من الاختلاف علامة على الجذب والتنوع والجمال. المختلف هنا فرصة للجديد والمختلف الجاذب للدهشة والفضول وربما القبول والتبني. المختلف هنا يمتلك استحقاقا جماليا، فهو لم يعد واقعا فقط بل واقعا جماليا.

من المهم هنا التذكير أن التسامح بمعناه السياسي والفكري والنفسي متأسس على الاختلاف بمعنى أنه لا يؤثر على التنوع والتميز بقدر ما يتأسس عليها. الخطر الذي يمثله التسامح يتوجه للثقافات المتعصبة التي تشكل هويات حادة مصطنعة. تلك الهوايات لا تقبل بالتسامح لأنه سيقضي عليها، لذا فإن وجودها مرتبط بحالة شحن مستمرة ضد المخالفين، والدفع بهم باتجاه صورة شيطانية تقطع أي إمكان للتواصل معهم.

هذه الهويات الحادة بالضرورة غير متسامحة وبالضرورة غير تواصلية. ربما هنا نصل إلى السؤال التأملي الذاتي وهو: ما مشكلتنا مع من نختلف معم؟ ولماذا يؤدي الاختلاف معهم إلى مقاطعتهم؟