تقول كلمات الشاعر عبدالوهاب محمد: "حيرة بعد حيرة من البداية للنهاية، قالوا ياما قالوا في الحكاية ناس كتيره، الورد اللي بنسقيه بدموع عينينا ليه حد منا يقطفوا ده حرام علينا، إيه ذنب الورد إيه، أوراق الورد بتتألم، أوراق الورد بتتكلم، وتصرخ وتقول للجانى إذا كنت خاصمت البستانى إيه ذنب الورد إيه؟!"... هذه الكلمات خطرت على بالي بعدما تكرر تعدد حوادث التعدي على الطفولة، ليس فقط في أرجاء وطننا الحبيب، بل أيضا طالت الأطفال المهجرين في لبنان، "لبنان الكرامة والشعب العنيد"! وهذه الأخيرة تستحق مقالة خاصة بها نظرا لحساسية الموضوع وأهميته لأشقاء لنا، ليس فقط بالدم والعرق والأرض، بل بالتاريخ والمصير وقبل كل ذلك أشقاء بالإنسانية.
نعم إنها "حيرة بعد حيرة".. لقد طالت الحكاية وتطاولت على إنسانيتنا.. تعنيف.. تعذيب.. قتل وتشويه ولمن؟! لورود زرعها الله كرامة وحبا منه في بساتين حياتنا، فماذا كان الرد؟ كفر واعتداء.. كراهية واستعلاء، و.. نسينا أن النعمة لا تدوم! لماذا أتحدث بالجمع؟ لأننا نحن أيضا مسؤولون عما يجري لهم، رأينا وسمعنا ثم استدرنا وسرنا لنكمل الحياة، هاجرنا من أرض الإنسانية إلى عالم اللامبالاة! قبل أن ترفع الحواجب وتنهمر الاتهامات لنسأل أنفسنا: متى آخر مرة تدخلنا ولو عن طريق بلاغ للسلطات عن تعديات حدثت أمام أعيننا أو وصلت لمسامعنا؟! من منا أوقف يد معتدية قبل أن تهوي على وجه زهرة؟! من منا حقا نظر في عيني طفل معنف وتعمق ورأى الألم الذي يخفيه؟! كل ما هنالك أننا نتبادل صور الأطفال الجميلة ونكتب عليها المقاطع والنثر الجميل لنبدأ صباحنا أو نودع مساءنا، أما المعنّف لا نتحرك لنجدته إلا بعد أن تقع الكارثة، وحينها فقط إما لنستهجن أو لنحسبن أو لنعترض وقد تتحرك فينا القريحة فنفتي من على مقاعدنا كيف يجب أن يكون العقاب للمعتدي، وفي هذه النقطة بالذات يخرج كل الإبداع الذي لدينا! يا سادة التحرك يكون استباقيا وليس بالضرورة ردة فعل، ففي كثير من الحالات تكون ردة الفعل بعد الفاجعة كرش الملح على الجراح!
أيها المعلم، أيتها المعلمة، الطفل الذي لا يشعر بالأمان لن يتعلم، الطفل الذي يشعر بالجوع لن يتعلم، الطفل الذي يتألم لن يتعلم، الطفل الذي يعاني من ظلم وتعدٍ من أهله أو رفاقه لن يتعلم.. لن يتعلم.. لن يتعلم! إنهم أمانة بين أيدينا، لم نأت لنعلمهم أبجد هوز "حطي كلمن" فقط، أتينا لنبني شخصية كاملة صالحة مؤمنة قادرة على القيادة والإبداع، إنهم روح وعقل وجسد لا يمكن التركيز على واحدة وإغفال البقية، لنقترب منهم، لنحاورهم، ورجاءً للنظر في أعينهم ولنصغي إليهم، فمنهم فقط تستشفون كل ما قيل وكل ما لم يقل! نعم الكتب والدراسة أرشدتنا إلى كيفية التعامل من تدريس وإرشاد وتوجيه، ولكن ستبقى نظريات فارغة إن لم تطبق، والطريق يبدأ من التلاميذ، إن اقتربت منهم وتعرفت عليهم عن كثب وليس كمجرد قائمة أسماء لفصل أو شعبة، أو مجموعة ساعات أو حمل دراسي لفصل أو عام، ستجد الإجابة وستجد الإعانة منهم، ومن خلالهم فقط تستطيع أن تعالج الضعف وتدعم الموهبة وترتقي أنت قبل أن يرتقوا هم.
ونحن بقية المجتمع.. أخ وأخت، جار وجارة، صديق وصديقة، قريب وقريبة، كل لنا دور في تربية النشء، سواء أكان لنا أطفال أم لم يكن، أولها عدم التجاهل والابتعاد والتغاضي حين نشاهد أي اعتداء أو تعنيف، خوفا من المشاكل وتفاديا من أي تصادم.. هل تنشدون راحة البال؟ وماذا عن راحة الضمير؟! حين تكتشفون أن ابتعادكم وعدم اهتمامكم ترك المجال للمعتدي لأن "يتفرعن" إلى أن تحدث المصيبة الكبرى.. تدمير عقل.. تشويه جسد.. قتل روح! في الخارج حتى الغريب يتوقف ويتدخل ولا يسمح بالتعدي على الطفل، بغض النظر عن قرابة من يقوم بالاعتداء، وفي المدارس يبلغ عن أي علامة ظاهرة في جسد الطفل قد تشير إلى تعرض الطفل إلى عنف أو اعتداء ما، وفي حال عدم التبليغ وتبين لاحقا أن الطفل كان يعاني من العنف مهما كان نوعه أو درجته مما أدى إلى كارثة في حياة هذا الطفل، تقفل المدرسة ويعاقب جميع أفراد الهيئة التعليمية والإدارية لمجرد أنهم لم ينتبهوا، حيث كان واجبهم أن ينتبهوا، والجميع دون استثناء مسؤول عن كل طفل في المدرسة.
وأخيرا، نهمس في أذن كل أب وكل أم في حالة خصام أو عدم توافق، "إذا كنت خاصمت البستانى إيه ذنب الورد"؟!، حقا إن كنت على خصام مع شريك حياتك لماذا يجب أن تصب جام غضبك على الأبرياء في بستان حياتك؟ لا تجعلوهم حجارة تتراشقونها فيما بينكم للأذية والانتقام من الآخر.. لماذا تعتدون على أجمل ما في حياتكم، لماذا تدوسون على ورود بساتينكم، لماذا تكفرون بنعمة حُرم منها الكثير؟! لو تعلمون، وأنكم بالتأكيد تعلمون، أن هنالك من يصلي لله ليلاً نهاراً من أجل احتضان رضيع، وبالمقابل أنتم تقتلعونه من قلب الأمان وتقذفون به عرض الحائط.. فتنفجر الهمجية وتنزف البراءة! قليل من الرحمة يرحمكم الله، حينها سيدخل الرحمن البصيرة إلى قلوبكم فيتضح الطريق، إما اتفاق ومودة وإما تسريح بإحسان... اللهم أنر بصائرنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.