«الدواعش أعراض، وإيران عندها مشروع إمبراطوري».
كانت تلك كلمات أحد دهاقنة السياسة الأميركية على مدى تأريخها، وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر، وهو يعلق على ما قاله أوباما بأن الأولوية لخطر "داعش" وليس إيران.
أتأمل فيما فعله الرئيس الأميركي أوباما بحشد أربعين دولة لمقاتلة تنظيم صغير كـ"داعش"، ولا أملك إلا أن أتعجب، وتزيد حيرتي عندما تقول الاستخبارات الأميركية قبل عامين إن أعداد هذا التنظيم المتطرف هو بضع مئات فقط، قبل أن تغير رأيها بعد عامين لتقول إنهم بلغوا عشرة آلاف مقاتل، واليوم تدعو العالم وتقول إن عددهم تجاوز الثلاثين ألف مقاتل، وكان بإمكانهم وقتذاك محاصرتهم – وهم الخبراء في نشوء تيارات العنف وتمددها- وحماية العالم من شرهم، ولكن ثمة طبخة تطبخ في دهاليز الكاوبوي الأميركي.
صحيفة "نيويورك تايمز" طرحت في أحد أعدادها الأخيرة خريطة جديدة للشرق الأوسط، وقسمت فيها بعض البلدان العربية إلى 14 دويلة عربية، وفي هذا التقرير تفصيل بالصور لما قالته الصحيفة الأميركية الشهيرة، والموضوع ليس بجديد، وأتذكر تماما قبل عقد ونيف من السنوات أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأسبق كوندليزا رايس، حملت بحقيبتها خريطة تقسيم مثلها في مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي كانت تنادي به، ولكن الله سلم منها ومن شرورها، ولا أظن ثمة تهويلا في الموضوع بقدر وجود ما يحاك اليوم ويدار في المنطقة، و"داعش" هي الواجهة، وإليكم ما كتبه المحلل السياسي الصهيوني تسفي برئيل في صحيفة "هآرتس" في مقالته المعنونة بـ: "الدولة الإسلامية" تعيد ترسيم خريطة الشرق الأوسط"، يقول فيها: "والنتيجة هي أن داعش بالذات الذي يتطلع إلى شطب خطوط الخريطة السياسية التي خلقتها حدود الدول القومية في الشرق الأوسط، من شأنه أن يحدث الآن خريطة سياسية جديدة، قد تكون أهميتها تفوق حتى مجرد الصراع ضد التنظيم".
نحتاج فعلا في خضم الاحتشاد لضرب "داعش" أن نقرأ ما بعد ضرب هذا التنظيم البائس، وكتبت قبل أشهر متوقعا ما يحدث، بأن الضربة ربما تفرقهم بددا، غير أنهم سيتوالدون من جديد، وستعود لهم الشعبية التي فقدها أسلافهم "القاعدة" بسبب الضربات الأميركية، وستتعاطف معهم الحركات الثورية في كل العالم، فضلا عن مناهضي السياسة الأميركية، وتلك قصة أخرى ومبحث آخر، ولكن ما يهمني من سيكون شرطي المنطقة، ومن الكاسب الأكبر من ضرب "داعش"، وكيف هي نوايا إيران التي لها وجوه متلونة عديدة، فوزير خارجيتها له خطاب حمائمي خلاب، فيما جماعة المرشد الأعلى والجنرالات معهم؛ لهم وجه آخر مغاير تماماً.
كثير من المتابعين والخبراء السياسيين العرب يشعرون اليوم بالخطر، وها هو المحلل السياسي الشهير الدكتور عبدالله النفيسي يعلق في موقعه بـ"تويتر" على خطاب أوباما بقوله: "في خطاب أوباما يبدو حرص أميركي على نشوب حرب سنية سنية في المنطقة وترتيب الأريكة للمتفرج الإيراني والإسرائيلي".
الحوثيون يهتفون في جهتنا الجنوبية، "اشتي حقي مو خايف.. من صلالة للطائف"، وصحيفة "كيهان" الرسمية الإيرانية المملوكة للمرشد العام الإيراني علي خامنئي نشرت في تحليل أخير لها، كتبه "حسين شريعتمداري"، ذكرت فيه أنه بعد اليمن ونجاح الثورة الإسلامية في صنعاء سوف يكون الدور القادم على سقوط جارتها الشمالية، وتفكك ما وصفته بـ«الدولة المفروضة على الحجاز»، بحسب تعبيرها. وأضافت بأن "الثورة اليمنية الإسلامية تمضي قدماً، ولا يمكن لأي طرف أن يقوم بتثبيط هذه الثورة العظيمة"، وقد وصفتنا بأننا "دولة من القرون الوسطى".
ربما مصالح آنية تجمعنا اليوم مع إيران، كمثل ضربنا للأفعى "داعش"، ولكن حذار من الارتهان والركون للآفة الأعظم، فلديهم مشروعهم الإمبراطوري الكبير، تدعمه روح أيديولوجية عاصفة، لا تزحزحها الأحداث ولا الزمن، فما زالت روح تصدير الثورة كامنة فيهم، وهم مهتبلون لأية فرصة لإظهارها، والحليف الأميركي الذي طعننا في ظهرنا، ومد يده لهم، هو اليوم أكثر ثقة بذلك النظام الصفوي، والخوف كل الخوف أن يتم ترتيب المنطقة لصالحهم وعلى حسابنا، بعد أن ضاقوا بالسلفية، و"الوهابية" و"الجهادية" وبقية الصفات التي يشارك في زفتها بكل غباء بعض باحثينا وكتابنا السياسيين، إن بحمولات أيديولوجية أو بأحلام لاستعادة ملك غابر.
أعود لكيسنجر وأنقل ما كتبه أستاذنا الكبير الدكتور سالم سحاب في زاويته بالزميلة "المدينة" يوم السبت الماضي من تصريحات له في لقاء تلفزيوني مع القناة العامة الأميركية PBS، حيث حذر هنري كيسنجر من خطورة الحزام الشيعي الممتد من طهران مارًا عبر بغداد وحتى بيروت، فهو يعتقد أن ذلك (سيمنح فرصة لإعادة إنشاء الإمبراطورية الفارسية تحت يافطة شيعية دينية). وأضاف: (إن هذا يعطي قوة هائلة لإيران من الناحية الاستراتيجية)، ولذا فإن (إيران في واقع الحال تمثل مشكلة أكبر مما يُسمى بتنظيم الدولة الإسلامية أو داعش).
"داعش" واجهة فقط لإعادة تقسيم المنطقة، والإمبراطورية الفارسية ستتمدد إن لم ننتبه.