أيام قليلة فقط تفصلنا عن العودة الكئيبة للمدارس بمختلف مستوياتها وأنواعها، بدءاً برياض الأطفال ومروراً بمراحل التعليم العام وانتهاء بالمعاهد والجامعات، دون أن ننسى طبعاً الحزن الشديد الذي خيّم منذ أيام إثر عودة أكثر من نصف مليون معلم ومعلمة. وأظن أن عبارة "العودة للمدارس" أو "Back to School" هي الأسوأ على الإطلاق على مسامع ونظر ومزاج كل فرد من أبناء هذا الوطن العزيز، ولو عُمل استبيان عن العبارة الأكثر كرهاً لدى الشعب السعودي لجاءت "العودة للمدارس" في المقدمة وبلا منافس.
أعمل في سرك - أقصد سلك - التعليم منذ عشرين سنة وأعرف جيداً كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة عن الواقع المزري للتعليم في بلادنا، لاسيما التعليم العام بمراحله الثلاث. وقبل الخوض في هذا الموضوع الشائك والمحبط، والذي أُشبع كتابة وتحليلاً ونقداً، ولكن دون جدوى كما هي العادة دائماً في كل ما يُثار من قضايا وأفكار وآراء هامة وضرورية، حيث لا تجد ــ ولا أظنها ستجد ــ الآذان الصاغية، سواء كانت تلك الآذان صغيرة أم كبيرة. قبل كل ذلك أود أن أضع هذين الرقمين الخطيرين جداً، لعلهما يُحدثان بعض الفرق هنا أو هناك، 5 ملايين طالب وطالبة على وشك العودة للمدارس، وفي انتظارهم أكثر من نصف مليون معلم ومعلمة، كل على حدة، حتى لا أُتهم بالتشجيع على الاختلاط! إنهما الرقمان الأكثر والأهم والأخطر في مسيرة هذه الأمة الفتية. وهنا يقفز السؤال الذي لا سبيل لإيقافه: لماذا يكره السعوديون العودة للمدارس؟
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، أنتما على الأرجح وليا أمر طالب في أقصى الجنوب، أو طالبة في إحدى قرى القطيف، أو في كل أرجاء هذا الوطن الكبير بهجره وبلداته ومدنه. تعالا معي في جولة سريعة لإحدى المدارس الحكومية لنقضي معاً أوقاتاً "جميلة" في صباح أول يوم دراسي، وتأكدا بأن المدارس الأخرى على امتداد الوطن نسخ كربونية - إلا القليل جداً - من هذه المدرسة التي "أسعدنا" الحظ بالتعرف عن قرب على أول يوم دراسي فيها، وهو بالتأكيد الأهم خلال مسيرتها التعليمية خلال موسم دراسي حافل.
الساعة السابعة صباحاً، الطلاب في "فناء" المدرسة الخارجي، الأوراق والدفاتر والكتب القديمة وعلب العصير والغبار والتراب يعصف بالمكان كما لو أن إعصاراً مر من هنا. الصراخ يعلو هنا، ويزداد الشجار والعراك هناك. بعض المعلمين في طريقهم بتثاقل وكسل نحو غرفة المعلمين دون أن يلتفتوا لكل تلك الفوضى العارمة، يبدو أنّ الأمر أكثر من عادي مع بداية العام الدراسي الجديد، بهذا تمتم أحد المعلمين الجدد. لم يكتمل نصاب المعلمين إلا عند الثامنة والنصف، الوكيل يبحث في الكمبيوتر عن قوائم الطلاب لتوزيعهم على الفصول، ولكن ما الفائدة والطابعة بلا حبر منذ الفصل الدراسي الثاني من العام الماضي. لا داعي للطابور فالميكرفون لا يعمل وأستاذ علي صاحب الصوت الجهوري لم يحضر بعد، وأخيراً الطلاب في غرف الدراسة، الغبار والأوساخ تُغلف الكراسي والطاولات، والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان. مرت ساعة أو أكثر، والحال كما هو. المعلمون في غرفتهم التي ليست بأحسن حالاً من غرف الطلاب. لا أحد يُريد المجازفة بالذهاب لتلك الفصول الكريهة، السنة طويلة جداً ونحن في أول يوم دراسي، هكذا يتحدث المعلمون فيما بينهم. الساعة تقترب من العاشرة، يشعر الطلاب بالجوع والعطش، ولكن المعلم المسؤول عن المقصف نُقل لمدرسة أخرى، ومتعهد المياه لا يأتي عادة إلا في الأسبوع الثاني أو الثالث. المعلمون في حيرة من أمرهم، ماذا يفعلون أمام صرخات الجوع والعطش الصادرة من كل الفصول، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فهناك مشكلة أخرى، فحمامات المدرسة برغم وساختها وافتقادها لأدنى شروط النظافة والسلامة بلا مياه بسبب عطل "الدينمو" في فترة الاختبارات النهائية من العام الماضي. المشهد الميلودرامي في تصاعد مستمر، والموسيقى التصويرية الناتجة من صراخ وعراك الطلاب نتيجة الجوع والعطش و.... تتناغم وهذا المشهد الدرامي المؤثر. السكون يسيطر على غرفة المعلمين نتيجة الحيرة والعجز والخجل، وأخيراً يُمارس المدير سلطته التي اكتسبها منذ تعيينه مباشرة في هذا المنصب المهم إثر تخرجه من قسم الهندسة الزراعية من جامعة الملك فيصل بالأحساء قبل 28عاماً، ويأمر بصرف الطلاب، وهو يعلم أو لا يعلم -لا فرق- بأن غالبيتهم قد فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم قبل ساعة تقريباً.
هذا هو أول يوم دراسي في تلك المدرسة، وفي كل مدرسة تقريباً مع بعض الفروقات والاختلافات البسيطة. نعم، قد تتحسن الأحوال قليلاً مع مُضي الأيام، ولكن أليس اليوم الأول هو البداية الحقيقية للنجاح، والعنوان الكبير للتفوق؟ وقديماً قال أهل المثل: "اللي هذا أوّله ينعاف تاليه"!