يعد الانطباع الشعبي العام بأن روسيا والصين حليفتان انطباعا خاطئا، ويعود هذا الانطباع لكونهما دولتين شيوعيتين وتتخذان في أحيان كثيرة نفس المواقف من القضايا العالمية، وآخرها توافقهما في الموقف حيال الوضع في سورية. على أن تاريخ روسيا والصين خلال القرن العشرين كان محكوما بالتنافس والعداء، أكثر مما كان محكوما بالتعاون.
تاريخيا، ناصبت الصين روسيا العداء نتيجة الصراع الشخصي بين كل من ماو تسي تونج وستالين، فالصين أرادت طرح نسختها الخاصة من الشيوعية وألا تكون ضمن محور نفوذ الاتحاد السوفييتي، ومن ثم فإن شيوعية الدولتين كانت في حقيقة الأمر سببا للخلاف لا التوحد. من جهة أخرى، تشابه مواقف وسياسات الدولتين ليس نتيجة تفاهمهما، وإنما بسبب اتفاقهما على الخلاف مع الغرب والولايات المتحدة خصوصا ـ على مبدأ عدو عدوي صديقي ـ لكن كلتا الدولتين لم تكونا في وقت ما صديقنين، بل اشتعل بينهما التنافس والصراع على منطقة آسيا الوسطى بشكل كبير ومستتر.
لم تتغير العلاقة بين روسيا والصين وتأخذ منحى أكثر تعاونا إلا عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانفتاح الصين الاقتصادي في التسعينات، وتحولت الخلفية الشيوعية لكليهما إلى عامل مساعد وإن لم يكن رئيسا، حيث استمر السبب الرئيس لتوجيه سياساتهما ودفعها للتحالف وهو استمرار المنافسة والصراع مع الولايات المتحدة. لكن هذا التحالف ظل ظاهريا في التسعينات بسبب رغبة الصين في تنمية علاقتها التجارية مع الولايات المتحدة من جهة، وبسبب ضعف القيادة الروسية إبان حقبة بوريس يلتسن، التي هادنت الغرب من جهة أخرى.
مع بداية القرن الحادي والعشرين ودخول الولايات المتحدة إلى أفغانستان وجدت كلتا الدولتين نفسيهما أمام تحد حقيقي يتعلق بوجود الولايات المتحدة على حدودهما، وهو ما دفعهما لبداية وضع أسس استراتيجية للتعاون أسهم فيها بشكل أكبر مع الوقت، الأزمة المالية العالمية، ثم مؤخرا الاستراتيجية الأميركية لإعادة التمركز في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ.
عملت كل من روسيا والصين خلال العقد الماضي، على تدعيم منظمة شنجهاي للتعاون (أسست عام 2001) التي تضم دول آسيا الوسطى إلى جانبهما، وتحويلها لمنظمة إقليمية قادرة على إدارة شؤون تلك المنطقة ومنع التدخل الغربي فيها وإيجاد مظلة أمنية واقتصادية للمنطقة ودولها، بعيدا عن النفوذ الأميركي وملئا لفراغ سقوط الاتحاد السوفييتي.
في منتصف مايو الماضي وخلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين، تم توقيع اتفاقية ثنائية في غاية الأهمية بين الطرفين، لم يتنبه لها الإعلام كثيرا، تتعلق بالاتفاق حول بناء خط أنابيب لتصدير الغاز الروسي إلى الصين (عبر سيبيريا)، وتنص الاتفاقية على قيام روسيا بتصدير ما قيمته 400 مليار دولار من الغاز إلى الصين على مدى الثلاثين عاما القامة (38 مليار متر مكعب، بمتوسط تكلفة 350 دولارا للألف متر مكعب من الغاز). كما عرضت روسيا على الصين فرصة شراء حصص كبيرة في مشروعها للغاز المسال في فلاديفوستوك، كما نصت الاتفاقية على منح مؤسسة البترول الوطنية الصينية (CNPC) فرصة شراء 19? من شركة روسنفط (Rosneft) ـ وهي الشركة الأولى لإنتاج النفط في روسيا ـ مما يعطي الصين حق الجلوس في مجلس إدارة الشركة الوطنية الروسية الأولى للنفط.
على صعيد آخر، كانت هناك اتفاقيات أخرى تتعلق باستثمار الصين في روسيا والمشاركة في مشاريع روسية كبرى، منها اتفاقية بـ10 مليارات دولار في قطاع الطيران لإنتاج مشترك للطائرات ينافس بوينج وآيرباص، واتفاقية في قطاع الكهرباء بـ2,6 مليار دولار، إضافة إلى خطط بناء مصنع سيارات ومشاريع إسكانية ونقل من سكك حديد وبنية تحتية لطرق سريعة وجسور تربط الصين بمنطقة سيبيريا، مما يختصر المسافة بين الدولتين بحوالي 700 كيلومتر ويرفع حجم التجارة البينية بمعدل 21 مليون طن سنويا من البضائع. ويأمل الروس عموما في رفع حجم المشاريع المشتركة مع الصين في القطاعات الأساسية من 40 مليار دولار إلى 200 مليار بحلول عام 2020.
ما يحفز كلتيهما على هذه الشراكة هو اعتقادهما بالضعف الواضح للولايات المتحدة، فإدارة الرئيس أوباما أثبتت من وجهة نظرهما عجزا واضحا، بدءا من الانسحاب السريع من أفغانستان والعراق وترك كلتا الدولتين في حال أسوأ، ثم فشل الإدارة في التدخل لحل مشاكل شرق آسيا أو سورية أو حتى تهديد القاعدة (فقتل أسامة بن لادن لم يجعل من باراك أوباما الرئيس الذي قضى على الإرهاب، بل على العكس ازدادت سطوة الجماعات الإرهابية في عهده، سواء في العراق أو أفغانستان وحتى ليبيا التي شهدت مقتل السفير الأميركي هناك)، عدا عن كون الإدارة الأميركية فشلت في دفع ملف التفاوض حول السلام في فلسطين أو تحقيق النتائج المرجوة في المفاوضات مع الإيرانيين.
يرى كثير من المحللين أن الإرث الذي ستخلفه هذه الإدارة الأميركية هو تراجع دور الولايات المتحدة عالميا، وكل من روسيا والصين يريدان اغتنام هذه الفرصة، فتردد الولايات المتحدة فتح شهيتهما للعب دور أكثر ثقة على المسرح العالمي. تخفيض ميزانية الدفاع الأميركية مؤشر مهم لكلتيهما، فحتى وإن ظلت الميزانية العسكرية الأميركية ضعفي ميزانية كلتيهما مجتمتعين، فإن ما يظهره هذا الأمر هو ميل (trend) لدى الولايات المتحدة لمزيد من العزلة والانسحاب من المسرح الدولي، ورغم النقاط المتعددة التي أوردها الرئيس أوباما في خطابه لحفل تخريج أكاديمية وست بوينت (مايو الماضي) فإن روسيا والصين لا تزالان تريان في التلويح باستخدام القوة العسكرية الأميركية مجرد ظاهرة صوتية.
كلتا الدولتين لهما تجربة راهنة في تحدي الولايات المتحدة ووضعها تحت الاختبار، فالصين تواجهت مع الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في شرق آسيا من خلال خلافها مع اليابان حول جزر سينكاكو/دياويو، وروسيا من طرفها من خلال ضم شبه جزيرة القرم لها. كلتا التجربتين انعكستا في مزيد من الثقة لتحدي الولايات المتحدة، وفي ابتعاد حلفاء الولايات المتحدة عنها، خوفا من عدم قدرتها على الدفاع عنهم في وقت الأزمات. الهند على سبيل المثال، رغم علاقتها المميزة مع الولايات المتحدة والتي وصلت إلى درجة التعاون النووي، قامت بدعم روسيا في مسألة ضم القرم. في واقع الأمر فإن 85 دولة دعمت روسيا بشكل غير مباشر في مسألة ضم القرم من خلال الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة لإدانة روسيا، على رأسها إسرائيل رغم الضغط الأميركي الكبير.
الصين تواجه الولايات المتحدة في شرق آسيا، بينما روسيا تواجهها في شرق أوروبا، لذلك يبدو لكلتيهما أن تأمين حدودهما الخلفية مع بعضهما البعض أفضل استراتيجية لدخول القرن الحادي والعشرين، مما ينبئ بتغيرات استراتيجية كبرى ستشهدها العقود القادمة مع تعميق التحالف الاستراتيجي بين كلتيهما. روسيا من الدول القليلة أو (الوحيدة) التي تملك قدرة المبادرة على معارضة الولايات المتحدة في السياسة الخارجية على الصعيد العالمي، والصين من طرفها تريد الاستفادة من ذلك كوسيلة غير مباشرة لمنافسة الولايات المتحدة حتى لا تعرض مصالحها الاقتصادية للخطر، فما يظهر جليا هو الميل الصيني الواضح لعدم الظهور والجلوس في مقعد القيادة وتفضيل قيام روسيا بذلك بدلا منها. في المقابل فإن روسيا الضعيفة اقتصاديا تسعى لتوسيع قاعدة مستورديها من الغرب إلى الشرق، وعدم الارتهان فقط لأوروبا كسوق وحيدة لمنتجاتها النفطية، كما أن روسيا بحاجة للأموال والاستثمارات بشكل كبير لتحريك اقتصادها الذي يتباطأ وهو ما تستطيع الصين توفيره.
إن سقوط القوى العظمى لا يحدث فجأة وإنما نتيجة عملية تآكل للقوة مع الوقت، في ظل صعود متدرج لقوى أخرى منافسة للقوة العالمية المهيمنة. نظرية "انتقال القوة" (Power Transition Theory) لعالم السياسة ابرامو أورجانسكي تفتح الباب هنا للتبصر في مآلات وانعكاسات نشوء تحالف حقيقي بين روسيا والصين سيشكل مع الوقت منافسا حقيقيا للولايات المتحدة على المسرح العالمي. المملكة من طرفها تملك قدرة الموازنة لمصالحها مع كل الأطراف، وإن كانت سياساتنا تجاه كل من الصين وروسيا لا تزال محكومة بحقيبة أدوات محدودة للغاية، وهو ما يستدعي المراجعة لإيجاد استراتيجية سعودية كبرى تجاه العلاقة مع كل من روسيا والصين على أسس أعمق مما هو قائم حاليا.