اليوم، وقبل أي وقت مضى، ثبت وبما لا يدع مجالاً للشك أهمية التصدي للفكر التكفيري والمتشدد، وضرورة تضافر الجهود للقضاء عليه، لا سيما وقد وجدت الفتاوى والآراء التكفيرية من يروجها، ويدعو لها، وخاصة بين فئات الشباب.. دار الإفتاء المصرية لها تجربة تستحق الإشادة مع الفتاوى التكفيرية، فقد استشعرت مبكراً خطر الفتاوى التكفيرية، والفكر المتطرف على المجتمع المصري، وبادرت بإنشاء مرصد للفتاوى التكفيرية، يعمل وفق منهجية علمية منضبطة بضوابط العلم والعمل الصحيح المنبثق عن الفكر الوسطي؛ حيث يقوم المرصد برصد كافة الفتاوى التكفيرية والمتطرفة التي انتشرت وتنتشر وسط ترحيب ضمني من عدد من التيارات الفكرية المتشددة، ويتم العمل على تحليلها وفق منهج علمي رصين يراعي السياقات الزمانية والمكانية للفتاوى، ومن ثم يتم تقديم ونشر الردود العلمية الشاملة والموثقة عليها، بعد أن تمت معالجاتها بكل موضوعية.

المرصد أصدر مؤخرا تقريره الثالث حول "أثر الفتاوى المتطرفة على صورة الإسلام في الغرب"، وذكر أن تعامل جماعات الإسلام السياسي مع الدين على أنه أيديولوجية سياسية، وتصدر غير المؤهلين للحديث عن الشريعة جعلا العقلاء أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة إلى العالم، واستعرض التقرير نماذج من فتاوى القتل والعنف والخطف التي شهدها العالم في الماضي والحاضر، وأثرها على صورة الإسلام في العالم والتي كان من أشهرها الفتوى الشهيرة بإهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي صاحب رواية "آيات شيطانية"، والتي تناولتها وسائل الإعلام الغربية بنوع من التحيز الشديد، وعلى إثرها شن العديد من الكتاب والمفكرين الغربيين الهجوم المضاد ضد الإسلام والمسلمين.. التقرير عرض لما تقوم به حركة "بوكو حرام" من انتهاك للحرمات واستباحة الدماء، وهو ما اعتبرته الدار استخداماً صارخاً من قبل الجماعات المتطرفة لسلاح الفتاوى لتبرير عملياتها الإجرامية في حق الأبرياء، وذكر التقرير أن حركة "بوكو حرام" منذ إنشائها وهي تقوم باجتزاء النصوص الدينية من سياقها، وتنزيل الأحكام والفتاوى في غير موضعها، واتخاذها مبرراً لمهاجمة الكنائس، والمدارس، ومراكز الشرطة والجيش، والدوائر الحكومية، وخطف السياح، واغتيال المسلمين الذين يوجهون نقداً للمجموعة.

أسباب ظهور الفتاوى المتطرفة والشاذة، كان لها نصيب طيب ومهم في التقرير؛ فقد ذكر التقرير أن من أهم الأسباب تعامل بعض الجماعات والفرق مع الدين على أنه أيديولوجية سياسية، مما يعد أكبر خيانة تمارس بحق الدين، لأن الإسلام في هذه الحالة تم اختزاله في مجموعة من المبادئ السطحية، وضاقت مساحته الرحبة؛ وكأنه الراعي والداعي إلى العنف.. التقرير وضمن توصياته، أوصى بضرورة الاهتمام بالتواصل والحوار مع العالمين تواصلاً يهدف إلى البيان والتوضيح وليس الدفاع أو الهجوم، وهو ما حث عليه الشرع الشريف؛ فالقرآن الكريم حاور اليهود والنصارى، وحاور منكري البعث، ومنكري الرسالات السماوية، وحاور الجميع بمنطق العقل والحجة، وما من شك في أن الحوار مفيد باستمرار في عرض منطق الإسلام، وحججه الواضحة.

تجربة المرصد تستحق التعميم؛ فالمجتمعات تعاني كثيرا من الأقوال الشاذة، ولعلها فرصة مناسبة لتجديد الدعوة إلى جميع فئات المجتمع إلى التكاتف لمواجهة ما يشوه صورة الإسلام في الداخل والخارج، وما يرسخ من الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام، باعتباره دين العنف والتطرف والإرهاب، وبنفس المستوى أتمنى من وسائل الإعلام المختلفة أن تتبنى نهج "الإنارة"، لا "الإثارة"، في تناولها للقضايا الدينية، وعدم الالتفات إلى الأصوات النشاز.