من أسهل الأشياء التي يفعلها البعض في حرب التصنيفات والتحزبات الشائعة مؤخرا، أن يطلق التهم ويُلبس الألقاب والصفات على الطرف الآخر ويؤمن بحتميتها وصدقها. أكثر هذه التصنيفات الجاهزة أن يقول أحد عن آخر إنه: "ليبرالي" أو "علماني" أو "تغريبي". وعادة يوصف بها من يخالفه في تفكيره الديني بالذات أو من يتبنى أفكارا تنويرية أو حديثة.
ومع أنني ضد التصنيف بكل أنواعه في كل مجالات الحياة ولا أضع نفسي تحت أي وصف أو صفة مما ذكر سابقا أو غيرها، إلا أن هذه التصنيفات تستوقفني كثيرا لتأملها، خاصة عندما توجه لي شخصيا، ويشغلني مدى اقتناع الناس بها وتأكدهم منها، رغم جهل الأغلبية بمعنى الكلمة وأصولها وتاريخها وقد يخطئ حتى في طريقة نطقها.
ولنأخذ مصطلح "الليبرالية" نموذجا للقيام "بتفكيكه" وتقريبه من ذهن القارئ الذي لا توجد لديه أي خلفية عن معناه. فكلمة الليبرالية (liberalism) اشتقت من ليبر (liber) وهي كلمة لاتينية تعني (الحُر)، حسب موسوعة ويكيبيديا. وتعني بمعناها الفلسفي حرية الفرد باعتباره الصورة الواضحة للبعد الإنساني وضمان حريته التي يولد بها والتي ينبغي أن تستمر معه في كافة جوانب حياته الفكرية والعقدية والاجتماعية والاقتصادية. وآمنت الليبرالية مع تطورها خلال السنين، بأهمية كرامة هذا الفرد وحقوقه الإنسانية وعلى حصوله على ضمانٍ كافٍ من العدل والمساواة أمام القانون بينه وبين جميع أفراد المجتمع، وأن له الحرية المطلقة في التعبير عن رأيه والعمل بما يريد دون أن يتجاوز على حقوق الأفراد الآخرين. هذه الحرية إن سارت مع الإنسان بشكل ملازم لمراحله العمرية وأصبحت أسلوب حياة ومعيشة فإنها بالتالي ستمنحه قدرا من التسامح مع الآخرين وتقبلا لخياراتهم في الحياة وإيمانا باختلافهم عنه، وبكمال أهليتهم وحقهم فيما يعتقدون ويعملون، وبالتالي التعايش بسلاسة مع جميع الأطراف في المجتمع المحيط به وضمان السِلم الاجتماعي.
وبعيدا عن بداية "الليبرالية" التاريخية وتقلباتها على مدى العصور في الشؤون السياسية والاقتصادية، واختلاف ممثليها ونزعاتهم السلطوية أو النفعية أو الديموقراطية، فإن الليبرالية حافظت على توجهها بتبني الحرية الفردية ودعمها والتوجه لنشرها كفلسفة وأسلوب حياة مستقل. فهي بالتالي لا تعتبر دينا أو بديلا عن الدين، بل لا تأبه لديانة الشخص أو معتقده، مهما كان، وترى أن له الحرية في اعتناق ما يريد. أما من الناحية الأخلاقية فإن الليبرالية ترى أن كل فرد له الحرية في ممارسة ما يشاء وفعل ما يريد، بشرط أن تكون أفعاله وتصرفاته في حدوده الخاصة وأن لا تؤذي حريته تلك الآخرين أو أن تسبب خللا وإرباكا في النظام العام، فحينها تتم معاقبته حسب القانون الذي يعد ركيزة أساسية في الفلسفة الليبرالية.
بعد هذا الاستعراض المبسط والمختصر لأساس الفكر الليبرالي، دعونا نعقد مقارنة بسيطة بينه وبين أساسيات يقوم عليها ديننا الحنيف، وتتقاطع معه فيها، وأتى بها نبينا الكريم، عليه الصلاة والسلام. فكما نعلم أن الدين الإسلامي جاء بالمقام الأول لتعزيز حرية الإنسان وكرامته (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء-70]. وجعل اختيار الإنسان للإسلام اختياريا وأمرا يخصه فلم يجبره عليه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة- 256]، ولم يجبر الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، أحدا على اعتناقه طيلة فترة دعوته، كما عرف في سيرته. والإسلام يؤمن باستقلالية الفرد في تصرفه ورأيه وعمله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [المائدة-105], ويعتبر الفرد مسؤولا عن عمله ونتاج تصرفه دون أن يكون له تدخل في عمل الفرد المسلم الآخر أو غير المسلم (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) [القصص-55]. وبما أن لبِنة الإسلام الأساسية هي ضمان حرية الفرد بالمقام الأول، فإن الركيزة التي تقوم عليها هذه اللبنة هي هبة العقل التي منحها الله للإنسان وخاطبه في كثير من الآيات لإعمال هذا العقل والتدبر والتفكر في ملكوت الله وعطاياه وتسخيرها لمنفعته الشخصية وعبادة خالقه، فالعقل السوي هو الذي يقوده تفكيره وتأمله وتمييزه إلى طريق الحق والخلق السوي والأمر الرشيد (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية- 13].
إن ما يراه البعض من تهمة في توصيف البعض بأنه "ليبرالي" غير صحيح، ولا مؤذ في حال أننا فهمنا معنى هذه الكلمة، وما تقوم عليه فلسفتها. وبطبيعة الحال فإن النماذج المشوهة التي تتبنى الفكر الليبرالي، سواء كانت عربية محلية أو عالمية، ليست هي الحقيقة التي تقوم عليها فلسفة الليبرالية، إذا افترضنا وجود ليبرالية عربية أصيلة. هذه التهمة التي لا يتردد البعض بوصف من يخالفه بها اتخذت منحى جديدا في الأيام الماضية، حينما أصبحت كلمة "فاحش" التي أطلقها عدد من المتشددين وأصحاب الأحكام الجاهزة على من يصفونهم بالليبراليين رديفا لها، وهم في نظرهم من اعترض على تصرفات بعض أعضاء الهيئة الأخيرة في حادثة المقيم البريطاني وزوجته، أو من يعترض بشكل عام على التسلط والسيطرة والعشوائية من بعض الجهات. وعلى قدر ما في هذا اللفظ الأخير من تجاوز أخلاقي يتنافى مع السلوك الإسلامي، إلا إن كان القصد به تهمة "الليبرالية" قيمها السوية التي لا تتعارض مع ديننا، فإنها مرحب بها ومصدر اعتزاز يدركه من ينظر للأمور بشكل صحيح وعملي وواع.