"نارك الملقاة في

صحونا، حنّت إليك

ودمانا مذ جرت

كوثراً من كاحليك

لم تهن يوماً وما

قبّلت إلا يديك"

(محمد الثبيتي)

للبصر والسمع وكل حواسنا حدود لا ندرك ما بعدها ولا ما هو أقل من إدراكها؛ وكأن كل مخلوق يشغل مساحة من الوعي كما يشغل حيزا من الكون. عندما نرفع رأسنا ونتأمل النجوم التي يبقى ضوؤها ساطعا في سمائنا فكأننا ندرك ما كان أو نرى الماضي كما يقرر الفيزيائيون بسبب الزمن الذي يستغرقه الضوء للوصول إلينا طال أو قصر!

ربما هذا سر أن كثيرين منا مفتونين بالماضي سقطوا في حفرة زمنية ولم يقدروا على الخروج منها!

وفي خط الزمن يقف الإنسان الناجح في الحاضر ويتطلع للمستقبل، مستفيدا من خبراته الماضية؛ لأن الناجح يجيد التعامل مع أزمنته بذكاء!

لماذا نحن أمة عالقة بالماضي؟!

لو عدنا إلى معلومة الحواس ومحدودية إدراكها نجد أيضا أنها قد تحدث تشويشا لصاحبها لو كان مصابا بوسواس أو إدمان ما، أو برعت فكرة خاطئة أو تصور عن الحياة في اختراقه وتهديده وبالتالي افتقاده لإنسانيته؛ كما أن حواسنا بمحدوديتها وبالتشويش الذي يصيبها تكتب التاريخ وتقرأ أحداثه وتفهمها؛ ويبدأ الموهومون باختلاق أكاذيب يحلونها محل الواقع!

لست أبتعد كثيرا عن مقدمة المقال عندما أقول إن أكثر صراعاتنا اليوم سببها قصور وعوز في حواسنا من جهة واختلاط في فهمنا للحقيقة – هذا إن وجدت أصلا- والمعنى أن صورة جندي مثلا يعذب أسيره يمكن أن تغيّر الحقيقة فيها عشرات المرات كما تغير هوية الجندي والأسير وقد تعكس لتأكيد رؤية خاصة ويبقى المشاهد للصورة حائرا يبحث في تفاصيلها عما يؤيد رأيه أو ينفي رؤية مخالفه.

هذا يحدث في زمننا، زمن التوثيق المرئي كحوادث النزاع بين أشخاص أو شخص وجهة ما!

أتدرون ما المخيف؟!

الخوف كل الخوف ينتابنا حين نعود إلى للتاريخ ولمنقولات الأديان المحرفة على سبيل المثال، ونتأمل فيها سنفهم ببساطة معنى الاختلاف في تاريخ ولادة أحد أو موته؛ وسنفهم نسبة قصة أو نفيها، كما سنجد في التاريخ مجالا لآراء المحققين اليوم ترجح رواية على أخرى أو تنفيها ولا بأس بكل ما سبق لكن المخيف أننا سقطنا في حفرة تاريخية أشبه برمال متحركة تجذبنا لها وبينما نحاول النجاة بأنفسنا وبمن معنا، نجد أن الحفرة تتسع وتبتلعنا أكثر وما أكثر حفر الماضي لو تأملناها!

في المستوى السياسي الديني نجد بقايا الصراع بين الفرق الإسلامية والترضي والإجلال لجماعة والغضب والشتم لأخرى حفرة تاريخية مختلف عليها مما يزيد على أربعة عشر قرنا وما نزال ننشيء القنوات وتمد الفرقتان حبال (الوصال) مع ماض أحمق غلف بالكذب والأهواء الشخصية التي فرقت بيننا إلى اليوم!

على مستوى العصبيات القبلية ستجد أن من يغالي في النظر للماضي والمباهاة به – وهم كثر – ينسى أنه انشغل عن بناء مجده الخاص حتى أصبح إنسانا سلبيا يتجرع خمر الذكرى لانتصارات لم يخضها يوما كما لم يرَ ملامح من خاضوها!

على مستوى الدين أيضا لعبت جماعات الحديث التي أخذت بظاهره لعبتها في الترسيخ لفكرة المهدي؛ فقبل خمسة وثلاثين عاما وجود رجل اسمه محمد واسم أبيه عبدالله كان كافيا تماما لأصحاب تلك الفكرة لأخذا البيعة واستدعاء البسطاء السذج لها والاعتداء على بيت الله.

تروي لي صديقة من مكة أن زوج أختها وكان شابا بكل فتنة الشباب وأبا لثلاث بنات طلبت منه زوجته أن يحضر لها بعض الأغراض للمنزل فرد عليها وهو يرجل شعره: (يقولون المهدي في الحرم ببايعه وأروح أشتري الأغراض) وذهب وأطبق عليه وقتل هناك مع عدد من شباب تلك القبيلة وترملت نساء وتيتم أطفال لا ناقة لآبائهم ولا جمل، بل تلقفوا الفكرة المدعمة في وعيهم الديني وأحضروها للحاضر وقتلوا بسلاح وضع في يدهم جبرا أو رصاصة لاحقت فرارهم!

عند الشيعة هناك من يؤمن بالإمام الغائب كما آمن بعضنا بالحاضر مجرد فكرة أو حفرة ننتظر أن تخلصنا من كل أزماتنا ونحن نضع يدنا على خدنا!

من حفر الماضي أخذوا فكرة الخلافة والحنين لها والمبالغة في تمجيدها وانتظار خراج سحائبها الممطرة عند هارون الرشيد الذي كان يحج عاما ويغزو عاما، نجد أنها ورثت صراعا سياسيا داميا بين ولديه الأمين والمأمون، أدى لقتل الأول الذي حاول توريث ولده وإقصاء أخيه!

كما نجد أننا في معظم مساحة الجزيرة العربية وعلى مدى سنوات الخلافة الإسلامية كلها، كنا نعاني جهلا وتهميشا وفقرا ومعاناة لم ينهها إلا النفط في المئة سنة الأخيرة!

أخيرا أتساءل: أي خلافة عادت علينا بالخير ليبحث أبناؤنا ويتصارع فكرنا السياسي في وحل فكرتها اليوم، سواء في تركيا أو في داعش؟!

ما دمنا نعاني اليوم في معرفة حقيقة ما نعيش من صراعات تدور حولنا؛ أليس الأولى أن ننأى بنفسنا عنها ونتمنى لإخواننا السلامة والنجاة منها ونأسو جراحهم، لا أن نغذيها بأفكار سامة وبأشلاء مراهقين زاغت عقولهم ونظراتهم من صارخ في منبر مبشر بالحور العين يعود إلى بيته، مكتفيا بنساء من الحور الطين؟!

سؤالي للشباب في عبارة واحدة: لماذا نموت ليعيش غيرنا؟!