لم تكن الأحداث الكثيرة المختلفة "غير المنظمة"، التي حدثت أيام اشتداد تحركات ما سميت بالصحوة الدينية في الوطن العربي؛ إلا دليلا على ضحالة وبساطة العقل الذي ينفذ، لا على ذلك العقل المختبئ الذي يفكر ويخطط، لذلك جاء التنفيذ العشوائي حاصدا الأخضر واليابس دون مراعاة لأية قيم، أو تاريخ، أو أي شيء كان قائما يمثل المكان والزمان، وجاءت الصحوة وبكل جلافة، ممثلة لمضمون الإقصاء بكل معناه وتطبيقاته، لقد أنتجت في النهاية فكرا دينيا مشوها إلى أبعد ما يكون، وقدمت نموذجا متهالكا للفكر الديني وأبعاده، وهي التي مارست انتهازية بشعة صادرت في البدء عقل الأفراد، لتسيطر تاليا على عقل الشارع، وتجعله عقلا جمعيا لا يفكر بقدر ما ينفذ، وهي الطريقة التي سعى إلى تحقيقها العقل المختبئ المدبر للحركة، فقد كانت الصحوة ردة فعل لفعل آخر في مكان آخر، تمثل في الثورة الإسلامية في إيران، وما تلاها من حركة جهيمان واحتلال الحرم، وغزو الروس لأفغانستان، فجاء ذلك على حساب كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية، ورسم شكلا جديدا لطريقة الحراك الاجتماعي، وتدخلا سافرا في ديناميكية يوميات الشارع العربي البسيط بعمومة، التي تأثر كثير منها جراء ذلك، خاصة شوارع منطقة الخليج على وجه التحديد، لتتحول تدريجيا إلى نزعات ذات ميول تشددية تجاه الكثير من مظاهر الحياة التي اعتاد عليها، ومن تلك المظاهر إلغاء كثير من الاحتفالات الشعبية بحجة تحريمها دينيا، ولقد حاولت الصحوة بكل ما تستطيع تكريس النظرة المحتقرة لما سواها، والتقليل من الإنتاج التاريخي والموروث، دون الحاجة إلى فهم كيف ولماذا؟
يقول الروائي السعودي "أحمد أبو دهمان": "الصحوة كانت انقضاضا على كل الجماليات في الكون، كانت انقضاضا على الشعر، على المرأة، على الإنسان بشكل عام.....، الصحوة قتلت كل شيء جميل فينا".
وهذا رأي أحد من عاصروها وانخرطوا في باطنها وظاهرها، وعايش كما عايشنا معظم أحداثها.
نعم، أوافق "أبو دهمان" في أنها كانت انقضاضا بائسا على جماليات الحياة، أفرزت كثيرا من المعاقين فكريا، وكثيرا من الألم في البيوت والمجتمعات، فقد شقت الصحوة المجتمعات إلى نصفين، كما يريد فكرها ويريد مسيروها.
فهم الذين أرادوا أن يقنعونا بأن ما حدث كان صحوة عظيمة، إلا أن الأيام أثبتت أنها كانت أكبر الغفوات المغيبة للفكر الإسلامي في الواقع.
يحكي لي أحد الأصدقاء أنه لن ينسى "سر الليل" يوما، والقصص التي مازال يروي تفاصيلها لمن حوله، عن مرحلة انضمامه لمعسكرات الصحوة، وكيف أن التدريبات شبه العسكرية وقوانين الجيش والعسكر كانت جزءا من خطط تلك المخيمات، التي اختبأت خلف ستار المخيمات الإسلامية الصيفية ـ وكأنه كانت هناك مخيمات لغير المسلمين، المخيمات المسيحية مثلا ـ وهي في الحقيقة لم تكن إلا ممارسة تطبيقية لتشدد ديني فُهم على ظاهره بطريقة قاصرة ومريضة، تماما كتلك التي فهمها "جهيمان"، وأراد أن يكون الناس كما يريد هو لا كما يريد الإسلام!
ولقد فضل "الصحويون" تمييز أنفسهم، أو بالأحرى تمييز هذا الفعل من خلال رسمه في شكل بعينه، اتخذ من المبالغة في إرخاء اللحية وتقصير الثوب، والتأكيد على لبس قفازات الأيدي والجوارب للنساء، تجسيدا يدل عليها، وبالتالي يدل على الأسوياء من الناس في المجتمع! وقد كان لهم ما أرادوا بكل أسف عند شريحة كبيرة قبلت بما قالوا يومها، فأوكل الناس إليهم كثيرا من مناشط الحياة، ووثقوا في كل ما طرحوا، باستثناء بعض المنتمين إلى التيارات المختلفة، كالحداثيين وغيرهم مثلا، وبعض الأفراد الذين لم يكن لديهم أية فكرة عن الأمر.
لقد كنا نصلي في المساجد المختلفة دون أن يكون لدينا أية فكرة عن التصنيفات، حتى رأينا في مدينتنا الصغيرة، تسميات "باطنية" مقيتة، قسمت المساجد على تلك الفئات التي أنتجها فكر الصحوة تاليا، فكان أن صدم المجتمع بمسجد "الإخوان، ومسجد السلفيين، ومسجد الجامية، و...."، وهي الصدمة التي لم يحتملها كثير من الأصدقاء، الذين عادوا وخرجوا من عباءة تلك التجمعات وانخرطوا في الحياة الطبيعية، وهم يحملون في مخيلاتهم وذاكرتهم قصصا مختلفة، لا يرغب بعضهم في تذكرها وسأحاول سرد بعضها في المقالات اللاحقة.
كل ذلك أكد لـ"أبو الفواريز"، أنه لا مجال إلى التفكير في تغيير استراتيجيته لمواجهة ضغوطات تلك المجاميع الشكلانية التدين، وقد كان له ما أراد.