تشبهني حكاياتي جدا..
مطارق ثقيلة تحطم رأسي منذ دهور بتساؤلات شتى منها: هل صار الخراب والتوحش والتربص قدرنا؟، وباتت الأكاذيب المتبجحة وتبرير الجرائم السابقة واللاحقة لعبتنا المفضلة؟ ولماذا تحولنا لمحاربين بسيوف خشبية، وحناجر معدنية في معارك عبثية؟ وقبلنا التعايش مع "تخريب الإنسان" لنعادي الحياة والسلام والتواضع والمعاني السامية كافة، وحاصرنا القُبح والهمجية والانتهازية، وأصبحت أنهارنا وأشجارنا ومدننا وقُرانا وصحارينا وودياننا أسواقا هائلة للكراهية، وأمست معاني المحبة والتسامح والصدق والوطنية وغيرها مفردات "سيئة السمعة" تلاحقها القنابل والأحزمة الناسفة وتُصوب عليها المدافع وتقصفها الطائرات، ويذبحها "الدواعش" الذين خرجوا من شقوق الأرض بملابسات غامضة، بينما نرتضي دور "المفعول به" لنكتفي بلعن الخونة والمتآمرين، ونتبارى بتراشق الاتهامات والمهاترات حتى امتزج الحليب بالدماء بمشاهد مروعة اعتدناها حتى الثمالة.
هل استيقظنا فجأة لنجد هؤلاء "الدواعش" هبطوا من الفضاء؟ أم أنهم ولدوا من أرحام أمهاتنا، وشاركونا الرضاعة ورغيف الخبز والكتب المدرسية ومباريات الكرة وبهجة اللهو البريء تحت زخات المطر، فماذا حدث ليتوحشوا، ويتجردوا من إنسانيتهم، وتسكنهم قناعات شريرة ليعتبرونا "مشروعات ذبائح" يقدمونها قرابين لشيطانهم الرجيم الذي استقر بهذه البقعة المنكوبة من العالم؟
لعل أحدهم يتساءل: وهل يُستساغ وسط هذه الأجواء الملبدة بالأهوال التطرق للعشق؟ فيرد "صاحبكم" المسكون بالأمل المُزمن: ومتى اختار الحُبّ موعدا ليقتحم أبواب القلوب دون طلب الإذن بالدخول؟!
لعله "العشق المُعتق" الذي يجهل "صاحبكم" متى استيقظت شعلته بالروح، لكنه يعرف أنها لم تزل مستعرة، تأبى الخمود. فلا يذكر متى ولماذا وأين حدثت للمرة الأولى؟. لكنه لا ينسى تلك الرعشة التي غمرت كيانه، وزلزلته حين كان غضا كالنسيم يتسلل إلى القلب، رقراقا كجدول عذب، ساحرا يأخذ باللب، غامرا كالضياء نافذا كالقضاء
عذابات ومرارات بلا حصر تراكمت منذ دهور أمضاها "صاحبكم" في براري الحياة وأصقاعها. قبل أن يدرك معنى الحب. ذلك الذي عجز عن وصفه ـ على بلاغتهم ـ الشعراء، واحتار في تعريفه الفلاسفة والحكماء، وتساوى في الخضوع لسلطانه الصعاليك والأمراء، واجتهد في فهمه عامة الخلق والعلماء.
قبل قرون لا يذكر عددها، كان "صاحبكم" زهرة برية نبتت في البادية، حدثتها إحدى "حكيمات العرب" عن العشق وأحواله قائلة: "إنه خفي عن أن يُرى، وجلّ عن أن يخفى، فهو كامن كالنار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن أهملته توارى؛ لأنه إن لم يكن شعبة من الجنون، فهو عصارة السحر".
وحين تجسد "صاحبكم" في زمن الإغريق متلفعا عباءة المعلم الأول أرسطو قال عنه: "لو لم يكن للحب سوى أنه يشجع قلب الجبان، ويفتح كف البخيل، ويصفي ذهن الغبي، ويبعث حزم العاقل، ويخضع له سلطان الملوك، وينتزع سيف المقاتل ورمحه، لكفاه ذلك شرفا"، فصفقت له أثينا، ومع ذلك كان قدره في المحبة لا يُحسد عليه.
وحين تقمصته روح نابليون رأى الأمر بعين المقاتل الشرس، وليس بذهن الفيلسوف أو الشاعر الحالم فقال: "إن الحب لعبة الكسالى، وسلوى العاطلين، وسفينة الملك الغارق"، لكن حين سكنته روح أديب فرنسا الكبير فيكتور هوجو رد قائلا: "إن النفس التي تحب وتشقى تعرف أسمى حالات السعادة بالوجود".
أبحر "صاحبكم" بالفلوات والمحيطات والدفاتر العتيقة ليقرأ: "أن أولى مراتب الحب هي "الهوى" وهو ميل النفس، ثم "العلاقة"، وهي الحب اللازم للقلب، ثم "الكلف" وهو شدة الحب، ثم "العشق" وهو الحب المفرط، ثم "الشغف" وهو أن يلذع الحب شغاف القلب، ثم "الجوى" وهو الحرقة وشدة الوجد، ثم "التتيُّم" وهو أن يستعبده الحب، ثم "التبتُّل" وهو أن يسقمه الهوى، ثم "الهيام" وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الحب عليه.
وقالوا أيضا: "أصبته المرأة وتصبّته، واستهوته، ودلهته، واختبلته، وهيمته، وتيمته، وشعفت قلبه، وشغفته، وشغلته، وتبلته، وخلبت لبه، وسلبت فؤاده".
تبقى واحدة من قصص الحب النادرة حملتها آلة الأخبار من مدينة ابتلعها البحر، تقول إن الزوجة، احتفلت بذكرى وفاة زوجها بطريقتها الخاصة، بأن زارت قبره حاملة وردة حمراء ودمية كقلب أحمر كتبت عليه "أحبك" وطافت بمخيلتها لحظات الحب القديمة التي ماتزال وفيّة لها رغم مرور عشرين عاما على رحيله، إذ قررت ألا تحب أحدا بعده، وألا يمر عيد إلا بجواره فتتعطر استعدادا لزيارته. فتذهب لتبوح بعشقها السرمدي. تجثو جانب القبر أمامها صورة حبيبها تناجيه، وتذرف الدموع وتبثه لواعج القلب وشوقا لم يزده الفراق إلا توهجا.
ألم أقلها من البداية، تشبهني حكاياتي جدا. تلك الحكايات المحكومة بالانتظار لأجل غير مسمى، التي لا يُقيض لها أن تكتمل، ولا أن تنتهي أبدا.