لم تعد لصراعات الثمانينات، حول شكل القصيدة الحديثة أهمية، سوى دلالاتها التاريخية؛ لأن قصيدة التفعيلة باتت أمراً واقعاً، حتى إن الخلاف حولها تلاشى بالتدريج، بعد أن صدرت عليها مئات الدواوين، وكُتبت على نهجها آلاف القصائد، واستقر المصطلح الدال عليها، بعد تذبذبٍ بين: الشعر الحر، والشعر المنثور، والشعر المنفلت، كما أنها لم تعد مرتبطة بما حاول بعض أعدائها ربطها به، من كونها محاولة للخروج على الدين والتراث!
وفي عسير، كانت أول قصيدةٍ تفعيلية ينشرها شاعر من عسير، سنة 1393، وهو أحمد بن علي آل مانع عسيري، في ديوانه: "في متاهات الحياة"، وذلك قبل صدور أول ديوان تفعيلي سعودي كامل بأربع سنوات، وهو ديوان "رسوم على الحائط"، لسعد الحميدين، سنة 1377.
وقد وجد آل مانع نقداً حادا، مما جعله - فيما يبدو - يحجم عن نشر قصائد تفعيلية أخرى، وربما عن محاولة كتابة قصائد على هذا الشكل، أو محاولة إنضاج التجربة، وما ذاك إلا بسبب حدة الرفض، التي وصلت إلى اتهامه بنقص الموهبة.
يقول الدكتور علي مصطفى صبح عن القصيدة التفعيلية اليتيمة التي ضَمها ديوان: "في متاهات الحياة": "وكنتُ أود أن هذا النمط الموسيقي، والقالب النثري، لا الشعري، لا يدخل فن الشعر، ويجد منزلةً من نفسِ العسيري، ومن ديوانه الجيد، إلا إن كان الشاعر يريدُ أن يعرفنا بنثره المشعور، وأحسب أن العسيري لا يقصد ذلك، فهو يريد أن يجاريَ مَن يجعل التفعيلة شعراً بلا قافيةٍ، ولا بحرٍ عروضي. وفي رأيي أن شعر التفعيلة، هو معبر الخطأ والخطل السريع، فاليوم يكون على تفعيلة وزنٍ واحد، وغداً بلا تفعيلة ووزن.... وهو أيضاً معبر سريع إلى العامية، والقضاء على الفصحى لغة القرآن الكريم، وإننا اليوم لنرى بعض الشعراء من شعراء التفعيلة، ينظمون نثرهم المشعور بالعامية لا بالفصحى، وهذا أخطر وأشد لأنها حرب ضد الفصحى، ولغة القرآن، وليست حرباً ضد القصيد العمودي....".
وواضح أن النقد الموجه إلى قصيدة التفعيلة، وإلى شعرائها، كان يتجاوز القالب الموسيقي، إلى قضايا حفظ اللغة العربية، بوصفها لغة القرآن الكريم، والاحتراز من انزلاق لغة الشعر، إلى العامية، وغيرها من الأسباب، التي ثبت أنها ذرائع واهية، فضلا عن أن أسباب الرفض كلها لم تباشر موسيقا القصائد في ذاتها، وهو ما يجعل أي نقدٍ – من هذا النوع – صالحاً لنقد القصيدة التفعيلية بوصفها نوعاً، وغير صالحٍ لنقد النص الذي استدعى النقد، وربما أسهم ذلك في تأخر انعتاق الشعراء، وانطلاقهم نحو الشكل التفعيلي، وجعل بعضهم مذبذبين حائرين.
ريادة أحمد علي آل مانع عسيري، تستحق التفاتة بوصفها جرأة، وخروجا على النمط، ولكونها دالة على اطلاع مبكر على التجارب الجديدة.