ربما أن أهم اللحظات في حياتنا هي في الواقع (كل) حياتنا؛ لأنها "لحظة" كبيرة! ولكن غالباً ما يتردد سؤال تقليدي يكاد أن يكون أزلياً: ما أهم لحظة لديك؟
بالنسبة لكاتب هذه السطور، فإن أهم لحظة لديه هي هذه اللحظة. التي تكتب بها الأحرف والكلمات، أي اللحظة التي هو موجود بها كإنسان ضمن ملايين البشر، وهي موجودة فيه ضمن ملايين اللحظات السابقة. هذه اللحظة هي أهم اللحظات لدي؛ لأنها وببساطة شديدة تشعر الإنسان بوجوده في أطول لحظات الزمن، فكل شيء يمضي سريعاً عدا اللحظة!
فأن تعيش "اللحظة" يعني أنك إنسان تعيش كل تفاصيلها بانغماس شديد الخصوصية دون تكرار أو سلبية أو ملل، فالحياة مليئة بالتراكيب المعقّدة التي لا يمكن لنا - في كثير من الأحيان - فهمها إلا إذا فهمنا أنفسنا أولاً، فاللحظة شيء لا يتكرر، بل تأتي في وقتها بالضبط، إذ لا يمكن لإنسان أن يستحضر السعادة والألم في آن، أو الموت والحياة في وقت واحد، كل شيء له وقته؛ ولهذا تقوم "اللحظة" على الاستعداد الوجداني لها، كونها أمراً خاصاً جداً.
وعلى سبيل المثال: القهوة التي نحتسيها كل صباح يجب أن نعيشها كـ"لحظة" أولاً، بدءاً برائحتها الزكية وانتهاء بطعمها اللذيذ، وإن نحن فعلياً قمنا بتكرار الفعل كل صباح، إلا أن ذلك لا يعني تكرار "اللحظة" فـهي شعور خاص ونـقي يجعل المرء يفـعل ما يفعله للمرة الأولى كل مرة.
بعض الأفراد، نتيجة عدم وعي بالذات مقابل العالم، يعمدون إلى محاولة تكرار اللحظة، فيفسدون على أنفسهم دهشة اللحظة الأولى، وعلى الرغم من أن "اللحظات" لا تخلق مرتين إلا أن حياتها واحدة، ولها لا يمكن لشخص مثلاً أن يعود إلى مكان ما قضى فيه وقتاً ممتعاً أن يعود للحظة نفسها، بل هو يخلق لحظة جديدة وإن تكرر الزمان والمكان.
وما أكتبه الآن، قد يكون في المكان ذاته والزمان ذاته الذي كتبت فيه سابقاً، وقد تكون أزرار (الكيبورد) نفسها التي ضغطت عليها أصابعي مئات المرات سابقاً، إلا أن اللحظة جديدة تماماً لا تكرار فيها، فالكتابة بالنسبة للكاتب الذي يعيها ليست سوى لحظة!
ثمة لحظات فارقة في حياتنا، نتذكر فيها كل التفاصيل، سواء ما تعلّق منها بالميلاد أو الفقد، وما تعلق منها بالفرح والحزن، وغيرهما من اللحظات، وبقاء "ذاكرة" اللحظة في أذهاننا مرهون بقوة تأثيرها وتركيزها، فغالب الأفراد يشتتون تركيز اللحظة الحاضرة بالتركيز على الماضي أو المستقبل، وهذا ما يقتل اللحظة ويفقد متعتها ودهشتها.
يعكس الوجود الحميم في حالة اللحظة الحالية مدى إيجابية العقل أو النفس أو الجسد؛ ولذلك يعد أطفالنا من أكثر البشر انغماساً في "اللحظة" إذ يعيشون تفاصيلها تاركين ما يحدث في العالم من تفاصيل كثيرة.
ما وجد البشر في هذه الحياة إلا ليصنعوا الحياة، وصناعتها تبدأ من لحظة صادقة يعيشونها، ورغم التدمير الذي يقف على حافّة العالم منذ بدء التكوين، إلا أن الجمال يتفوق على القبح، والخير يتغلب على الشر، والحضارة تغلبت على البدائية، والإنسان تفوق على بقية الكائنات.
و"اللحظة" الحالية تكون هي المحك الحقيقي بين الإنسان والوجود، أو بعبارة أخرى: بين الوجود والعدم، من خلال الوعي بها، حيث يتحد الإنسان مع الحالة التي هو فيها دون أن يغفل عن أنه موجود في عالم ضخم يملؤه الزمان، ولكن لن تستوعبه هذه اللحظة الخاصة التي هي لحظته وحده فقط.
ليس معنى الوجود في "اللحظة" وحدة واغتراباً بقدر ما هو وجود الإنساني ضمن أشياء وكائنات أخرى، وهذه الحالة تشبه لحظة وجوده للمرة الأولى في هذه الحياة، حين بدأت لحظته الأولى بالبكاء، ربما ليس ألماً ولا استياءً من وجوده، إنما تعبير عن أنه يستطيع في اللحظة الحالية فعل شيء لم يستطعه سابقاً!
هنا يكون وجود الإنسان، أو انغماسه في اللحظة الحالية، يعني أنه يعبّر - بشكل ما - عن ذاته ووجوده، وهذا ما يميزه، إذ هو قادر بما وُهب من عقل أن يضع نقطة على حرف ليكتب لحظته.. اللحظة الأجمل والأكثر بقاءً.