لن تحاصر الأفكار المتطرفة إلا بالكشف والنقاش والمواجهة. موجات العنف والتطرف والتكفير التي تتوالى وتتناسل في المنطقة منتجة بين فترة وأخرى أنماطا فكرية وسلوكية تزيد عما سبقها بشاعة وتفوقها غرابة، وهي لا تقلق من شيء قدر قلقها من الثقافة والتنوير وإشاعة المعرفة، ليس المقصود هنا قصور الوسائل وحصرية المصادر المعرفية، ولكن وجود مشروع ثقافي شامل تتبناه جهات قادرة على تنفيذه ومراكمته يمكن أن يختصر الكثير ويكفي عناء الدمع والدم المهدور. فالتطرف والتوحش أفكار قبل أن تكون مواقف، ولكي تفكك موقفا يجب تفكيك فكرته المؤسسة قبلا، فالعلاجات الجزئية والمرحلية تجيء عادة بنتائج جزئية ومرحلية في الغالب؛ لكن بناء استراتيجية ثقافية شاملة تجعل المواجهة أنجع وأعمق وأكثر شمولية.
لا أقصد هنا توزيع فعاليات عبر منبر أو معرض أو نادٍ، محاضرة، أو ندوة، لكن فكرة أن تتحول الثقافة لتصدر مشهد المواجهة مع استمرار فاعلية الأجهزة الأخرى بتخصصاتها. ولمواجهة الأخطار الكبيرة فإن الدول تلجأ لبناء تحالفات واسعة حتى تتمكن من تحقيق أهدافها بعزم وقوة، ولذلك فإن تحالفات ثقافية عريضة يجب بناؤها قبل التحالفات السياسية والعسكرية، جربنا من قبل أن يترك العالم المنطقة تواجه غيلان التطرف والإرهاب وحيدة وعزلاء، العالم الذي لا يعرف إلا مصالحه تركنا سنوات، وها هو يفعل ذلك الآن، وسيفعل ذلك مستقبلا ما لم تمس مصالحه، تركت المنطقة تواجه مصيرها بيأس حتى فاضت البشاعات وانفلت جن التاريخ.
إن بناء تحالف ثقافي داخلي واسع عبر مؤسسات وأجهزة محلية داخلية مطلب ضروري وملح لإعادة صياغة الأفكار الأساسية للمواجهة مع قوى التطرف، ومن ثم تقييم المراحل بعد تنفيذها، خطة عمل وطنية كهذه تكون الصحافة والإعلام والوزارات ومؤسسات المجتمع الأخرى فاعلة بها كفيلة بإعطاء نتائج جيدة تكون ظهيرا وسندا لأداء وزارة الداخلية المنخرطة بكافة طواقمها في المواجهة الأمنية، وهذا ما تكشف عنه بين فترة وأخرى حملات الداخلية وبياناتها، بغية تحالف وطني ثقافي عريض لمواجهة التطرف والإرهاب حتى يمكن حماية مجتمعنا وأمنه واستقراره ودعم جهود وزارة الداخلية نحو مزيد من النجاحات، وكذلك استثمار فاعلية وحيوية أجهزة ومؤسسات وطاقات فردية وجماعية في مشروع مكافحة التطرف وحصار أفكاره المميتة التي تتناسل وتتكيف وتستغل كل الظروف السياسية الإقليمية في المنطقة التي ربما لن تعرف الاستقرار في المنظور القريب، وهذا ما يستدعي ويلح في الفكرة دافعا باتجاهها، الفكرة التي تبدأ عادة بدعوة عامة شاملة لوضع الأفكار ومن ثم رسم خارطة طريق للتنفيذ مع التقييم المرحلي المستمر.
