استكمالا لما بدأته في المقال السابق "قبل أن تغرق السفينة" حول المشاكل الحقيقية التي يعاني منها مجتمعنا؛ تطل العديد من التجاوزات المستمرة، ولا أكاد أحصي القضايا التي يأكل فيها الأولياء والأوصياء أموال الضعفاء من يتامى وأرامل والنساء عموما، وتتفاقم هذه المشاكل خاصة في الأرياف والبوادي البعيدة، حيث يرتفع مستوى الجهل ومعه ترتفع غالبا سيادة القوي على الضعيف، وللأسف أن معالجات مثل هذه المظالم لا تزال محدودة، وإن وجدت فهي وللأسف لا تزال بطرق تقليدية قديمة واجتهادات شخصية من القضاة ونحوهم.

كان المقال الماضي مركزا حول قضايا الحد من الحرية الشخصية للمرأة بلا دليل شرعي، الأمر الذي أدى فعليا إلى الكثير من المظالم، وبودي أن أختم الموضوع بأن من واجبات وزارة العدل البحث في كل ما من شأنه تعزيز العدل وترسية مفاهيمه، ولكون قضايا الانتهاك والاعتداء على أموال النساء تعتبر ظاهرة منتشرة؛ فإن من واجبات الوزارة البحث عن حلول قانونية أولا؛ لحفظ الحقوق ووضع رادع حقيقي لمن يقوم باستغلال ضعف المرأة والقاصر من أخ أو عم أو غيرهما، فالأخ أو الولي هما أول من يجب أن يتم وضع آليات لرقابة مدى تدخلهم في إرث المرأة والقاصر والتصرف فيه، وبمعنى آخر؛ ضرورة وضع تشريع نظامي يحوّل قضية التلاعب إلى قضية حق عام بالإضافة للخاص، كي نمنع تدخلات الأسرة لمنع الضعيف من أخذ حقه الشرعي. فالواقع أن كثيرا من هؤلاء الظلمة يستولي على حقوق الضعفاء من امرأة وقاصر وعاجز، ثم يستمتع بها وربما يعبث بها سنوات طويلة، وذلك الضعيف يعيش مرارة الفقر والعجز طيلة تلك السنوات، وإن نجح في استرداد حقه؛ فإنه لا يأخذ إلا رأس المال المتآكل، ويقال لذلك الظالم اذهب فأنت من الطلقاء! وربما تفاخر في المجالس أنه قام بدفع أموال المظاليم!

أعود لموضوع آخر قريب؛ فماذا عن القاصرين عموما من قاصر وعاجز؟

الحقيقة أن ظاهرة الاعتداء على أموال الورثة حتى من غير القاصرين هي أحد أكبر المشاكل بفعل بعض الموروثات الجاهلية، وبسبب ضعف التشريعات النظامية، وكان من واجب وزارة العدل البحث عن مثل هذه الظواهر وسن أنظمة وتشريعات لمعالجتها، فهناك الكثير من القضايا التي تصل للمحاكم، وهناك أكثر منها بمراحل ولا تصل للمحاكم بسبب العادات والموروثات الجاهلية التي لم تعالجها الجهات المختصة بفعالية، ولم يعالجها كذلك المختصون الاجتماعيون والوعاظ ونحوهم، تلك العادات التي تحمي القوي، وتكون سوطا على ظهر الضعيف فقط!

سبق وأن كتبت عدة مقالات حول هيئة الولاية على أموال القاصرين، وللأسف دخلنا السنة التاسعة من صدور النظام ولا تزال الهيئة لم تبدأ بأعمالها، ولم تصدر اللائحة التنفيذية للنظام في حدود علمي إلى اليوم، ولم تنشر الهيئة آلية العمل الذي ستقوم به لتطبيق أهداف وروح النظام، ولتعذرنا الهيئة ووزارة العدل فنحن لا نعرف شيئا عن أسباب عدم مباشرة الهيئة لاختصاصاتها ولو حتى ببعض التعليمات والتعاميم للمحاكم، ومن المقلق أننا حتى الآن لا نعرف ما هي الإجراءات التي ستقوم بها الهيئة في سبيل ضمان تطبيق النظام بفعالية؟ ما هي الضمانات التي ستضمن الهيئة بها حسن إدارة الأولياء لأموال القاصرين؟ كم من ولي هو سبب ضياع أموال القاصرين، فكيف ستضمن الهيئة سلامة وحسن إدارته؟ ما هي ضمانات عدم تعارض المصالح بين الولي والقاصر؟ ما هي آلية الهيئة للحد من العادات الجاهلية المنتشرة في مجتمعنا والتي تتسلط على القاصرين والنساء (القاصر الأنثى)؟ وهناك الكثير من التساؤلات التي أتمنى أن تضعها الهيئة في قمة الأولويات.

اطلعت على نماذج عمل عدد من الهيئات المشابهة في الخليج، وربما الهيئة الكويتية هي أقدمها، وتجد قانونها ربما أكثرها تطورا، ولكن من حيث العمل التنفيذي فقد اطلعت على الكثير من النماذج الإلكترونية التي تجدها على الموقع الخاص بهيئة القاصرين في دبي، فأغلب الأعمال المعتادة التي تتطلبها الولاية تجد لها نموذجا معتمدا وآلية محددة، مع تحديد عدد الأيام التي لا يتجاوزها إنهاء تلك المعاملة. حتى قيام الولي بالتوكيل ولو في عمل محدود يوجد له نموذج محدد، وفي حال انتهاء الولاية أو حتى أثناء سريانها؛ فإن ملف ذلك القاصر يحتوي على جميع المعلومات لكل من أشرف أو قام بأي عمل لصالحه وقيمة ذلك العمل.

كما يوجد نموذج آخر لطلب مبلغ مقطوع من أموال القاصر، لأجل تسديد الفواتير ونحوها، ونموذج آخر نفتقد إليه في كل القضايا للأسف، وهو نموذج طلب الاطلاع وتصوير المستندات الخاصة بالقاصر، حيث وللأسف أن نظام المحاماة لدينا تم تفسيره باللائحة التنفيذية التي وضعتها وزارة العدل، وفيه النص على تمكين أصحاب الحقوق ومنهم المحامون بالاطلاع فقط وليس التصوير، وهذا بلا شك يُضعف حفظ الحقوق التي يسعى وراءها أصحابها، وتمكين التصوير للأوراق المرتبطة بالشخص من أهم أولويات العدالة وحفظ الحقوق.

هناك نقطة جوهرية أتمنى أن تجد طريقها للجهات المختصة، وهي أنه من الضروري خاصة في وضع مجتمعنا ألا يتم السماح بالتصرف وإدارة أموال التركات إلا بعد حصرها ومعرفة كل طرف فيها حجم حصته تحديدا والتأكد من استلام جميع الورثة لنسخة من الحصر والقسمة، وهذا سواء كان فيه قاصرون أم لا، والسبب باختصار أن كثيرا من النساء خصوصا تضيع حقوقهن كما ذكرت أعلاه بسبب العادات الجاهلية المنتشرة وللأسف.

الحقيقة هناك الكثير أمام هيئة الولاية على أموال القاصرين ووزارة العدل، وأتمنى لهاتين الجهتين أن يوفقهما الله في حفظ حقوق الضفعاء والمظلومين، وأن تستفيد من الخبرات والتجارب لدى الآخرين لتبدأ السلّم من أعلاه، وهي مهمة صعبة ولكن مع العمل الكفء والجاد ستظهر النتائج بإذن الله.