يقول "غوغول" :"الخوف معدٍ أكثر من الطاعون"، وقد ظننت أن الحضارة والمدنية والنمو العمراني، قد ألغت الكائنات المرعبة والمتوحشة التي صنعها المخيال الإنساني، وشكلتها الحالة النفسية والعقلية للكائنات البشرية، ولكن الذاكرة الشعبية لا تزال تحتفظ في حكاياتها ومسامراتها بأحاديث "الجن والسعلاة وشاة الليل" حين تأتي في خطاب أسطوري، وحكايات مبتلة بالخرافة والغرائبية وتفتيق الحس، وقد عاشوا بها زمناً ضاجاً بتلك الموحيات، يسهرون حول المدفأة ويتسامرون حتى يكنسوا العتمة وتورق الصباحات المشمسة فوق رؤوسهم، وكأنهم يرددون مع أبي العلاء المعري: "طربنا لضوء البارق المتعالي.. ببغداد وهناً مالهن ومالي، إذا لاح إيماض سترت وجوهها.. كأني عمرو والمطي سعالي"، مشيراً إلى قصة "عمرو بن يربوع"، حين تزوج "السعلاة" فأنجبت منه ومكثت عنده زمناً وكانت تقول له: "إذا لاح البرق من جهة بلادي فاستره عني"، لكنها لما رأت البرق يلمع من بلاد السعالي توقد شوقها فطارت إليها ولم تعد.

فلسفة الخوف ليست "سجناً وهمياً" كما تقول دراسة سابقة لمجلة "الدوحة" صدرت متزامنة مع "ربيع الدم العربي"، فمنطق الخوف سواء من النظرة النفسانية و"السيوسولوجية" والسياسية أصبح يأخذ مساراً وصوغاً وإعادة إنتاج مختلف، يتربص بالإنسان ويأخذ شكلاً أكثر حدة واستبداداً ووحشية ورعباً، فالسعلاة لم تكن تؤذي الإنسان في أغلب الروايات رغم أنه كان "يؤنسنها" في صورة امرأة تلبس عباية سوداء، أو يبصرها في صورة ماعز أو كلب، أو غيرها من الكائنات فأكثر ما تفعله إما الزواج به أو تغويه الطريق وتضله أو تثير الرعب في داخله، أما سعلاة هذا العصر الأميركية، أو شاة الليل الداعشية، أو الشيطان القابع في دمشق، أو الغول الصهيوني المتربص بنا، فإنهم يمثلون النزوع نحو جز الحياة من رقبتها، واستجلاب الموت وإثارة الوجع والمرارات والقلق الوجودي للإنسان، والفتك المروع لكل مفاهيم التعايش وإشعال الحرائق والتحارب المستمر، وتقويض الحضارات وإشاعة التوتر والمثيرات التحريضية، والدخول من خلال الفجوات المذهبية والطائفية والعرقية وتأزيمها والإنهاك "المفكرن" للشعوب، يقول الدكتور يحيى الرخاوي: "كيف لا نخاف وقد امتلك مقاليد القوة والسلطة أبعد الناس عن حمل مسؤولية استمرار النوع البشري؟ كيف لا نخاف وقد امتلكت هذه السلطات كل أدوات الدمار التي تصوبها لكل من يقف في طريقها؟ كيف لا نخاف وقد انفصل العلم ونتائجه عن الأخلاق والوعي المسؤول عن الحفاظ على النوع البشري؟ كيف لا نخاف وقد عجز العدل بكل مستوياته عن تغيير الظلم الشديد جداً؟ كيف لا نخاف ونحن قادمون من تاريخ بقائي تطوري مزدحم بكل تجليات الخوف ومخاطره؟".