المبدعون كائنات يتلقفها الألم بشكل مغاير ومختلف تستجيب نفوسهم للحزن والكآبة بسرعة وحظوة أحيانا، أما لماذا؟ فيبدو لي أن أرواحهم الشفيفة المنضوية على عوالم التجليات والرؤى المتجاوزة بلغت من الرقة حتى لا تكاد تتمنع على الألم مهما كان يسيرا وعارضا، فما بالك إن كان عضالا وفتاكا؟

تحكي عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" عن زوجها الشاعر الكبير أمل دنقل أنه حين اكتشف المرض الخطير عبر ورم صغير اغتم واهتم ومات قبل أن يموت، لكنه ما لبث أن أعلن الصمود والتحدي على الرغم من ضيق ذات اليد التي كان أثرها على حياته وجعا آخر غير أوجاعه المتوالية. المبدعون في حضرة الألم حالات من التماهي والاندماج والتوحد فيصبح مسارا من مسارات حياتهم لا يحد نتاجهم ولا يعترض نفاذهم إلى ما لا يدرك عبر غيرهم، فهذا الروائي الكبير محمد ناجي يكتب أروع أعماله على سرير المرض في باريس، ولم تتمكن وطأة الألم أن تهزم عزيمة المبدع في داخله، وذاك ألبير كامي عانى قلقا مزمنا وهلعا دائما من الأماكن الفسيحة، أما الروائي المتجاوز همنجواي فقد عاش مضطربا فترة طويلة من حياته قبل انتحاره، ويذهب بعض النقاد إلى أن شخصية عمر الحمزاوي في رواية "الشّحاذ" لنجيب محفوظ تدل على أن محفوظا نفسه قد تعرض لاكتئاب مزمن أودع بعض دلائله في شخوص رواياته، وكانت ورشة عمل متخصصة عقدت في بيروت في مايو 2011 وشارك فيها نخبة من المتخصصين قد أثبتت أن المرض النفسي يستهدف المبدعين، بل ذهبت إلى أن كثيرا من أؤلئك المبدعين المرضى يتجلى إبداعهم في لحظات عنفوان المرض وسيطرته، لكن بعضهم – مع الأسف- ينهون حياتهم نهايات مؤلمة، فقد أوردت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد في كتابها "سيجيء الموت وستكون له عيناك" نهايات أكثر من مئة وخمسين شاعرا وأديبا من مختلف العصور والبلدان كانت السمة المشتركة بينهم هي الانتحار والعياذ بالله مع أن جميعهم قد تركوا أعمالا خالدة، إما أن تكون تدوولت بين الناس أو عثر عليها في مخطوطاتهم بعد رحيلهم، وعلى الصعيد المحلي عرفنا أدباء مميزين وقعوا في قبضة الوجع النفسي أو العضوي، لكن ذلك ما زادهم إلا تألقا، أتذكر منهم الشاعر حمد الحجي، والكاتب والشاعر والصحافي اللامع عبدالله باهيثم، وأيقونة المعرفة فائز أبا، والروائي عبدالعزيز المشري والشاعر عبدالله الزمزمي وأخيرا المختلف غازي القصيبي، كل أولئك كانوا بلابل مغردة لا يضيع تغريدها ولا يتيه حتى وهي تتألم وتقاسي.