لأنني مثل كثيرين قرأت في كتب الفلسفة بتخبط كبير، وقراءة بلا مرشد أكاديمي، فقد قدمت المؤخر وأخرت المقدم لكنني في النهاية خرجت بحصيلة جيدة عندما عرفت من أين أعود فأبدأ ولمن أقرأ.
في هذه المقالة أود أن أشيد بدور جيل من الرواد الحقيقيين الذين ولجوا هذا العالم مع بداية القرن العشرين فتعبوا كثيراً لكي ينقلوا إلى العرب قاطبة هذا العلم الذي غير وجه الدنيا ونقل الظلاميين في أوروبا لكي يكونوا أكثر شعوب الأرض تقدماً، شعوري بالامتنان العميق لهذا الجيل من العظماء هو ما دفعني لتدبيج هذه المقالة، لماذا خصصت المصريين بالذات؟ لأنني جربت أن أقرأ لكل العرب، ومع عميق التقدير والاحترام إلا أنني لم أجد شرّاحاً مثل المصريين، فالمصري معلم بطبعه، يحرص قبل أي شيء آخر على أن يفهم طلابه الدرس ويستوعبوه جيداً، وأول هذا الجيل وأكبرهم في نفسي هو الدكتور زكي نجيب محمود الذي لم تعد الدور تطبع كتبه، كيف نسمح أن تختفي كتب هذا العبقري الجهبذ، برغم أنه أول من جعلنا نفهم الفلسفة؟ فهذا الرجل كان يقرأ كثيراً ويؤلف كتباً محكمة، وعندما يؤلف فإنه يتجاوز كل المصطلحات الصعبة وعسر المزاج ليقدم لك صفحات بيضاء من العلم المحض المبسط، فبرغم أنني أميل إلى الفلسفة المثالية، والدكتور زكي نجيب محمود هو أهم دعاة المنطقية الوضعية من العرب، خصوم المثالية، إلا أنه هو من فهّمني الفلسفة المثالية من خلال كتاب ينتقدها ويبين ما فيها من عيوب ونقاط ضعف، كتابه "موقف من الميتافيزيقيا" الذي ينصبّ بدرجة كبيرة على نقد فلسفة هيغل دون أن يذكره بالاسم، أضف إلى هذا كتابه الآخر المهم "قصة الفلسفة الحديثة " وقد ذكر د. عبدالرحمن بدوي أن هذا الكتاب من تأليف زكي نجيب محمود وحده دون جهد يذكر من الرجل الآخر الذي وضع اسمه معه، وفي هذا الكتاب تتكرر شخصية العالم المصري الذي لا ينسى أن يأخذ طلابه بعين الاعتبار، وطريقة قائد القافلة الذي يتنبه لفروقات الفهم فيبطىء المسير حتى يتأكد أن الجميع على الطريق. في هذا الكتاب نجد زكي نجيب وهو يستخدم عباراته المعهودة وأسلوبه الرشيق ولغته السهلة، كما هي كل كتبه، مما يجعلني أميل لما ذكره د. بدوي. ثانيهما هو د. فؤاد زكريا ويكفيك منه كتاب واحد، ألا وهو كتاب "سبينوزا" حيث يحل فيه لغزاً عويصاً حول مذهب الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا شاغل الدنيا ومحير الناس، وللدكتور زكريا ترجمات عديدة أبرز فيها نفس الهوية المصرية التي تحدثت عنها، عندما يقدم درساً حيّاً في الترجمة، فيترجم المصطلح الفلسفي بالمفردة المعرّبة ويتبعها بنقل المفردة بلغتها الأصلية حتى يكون لدى القارئ خياران لكي يصل إلى الفهم، بدلاً من استخدام اللفظ المعرب وحده كما يفعل البعض، وقد مكث كثيرون منا زمناً يقرؤون عن الاسطاطيقيا ولا يدرون هل هو علم أم وصفة لعلاج التخمة، ولو قالوا (فلسفة الجمال) أو كتبوها كما هي (aesthetics) بحيث يتمكن الباحث من الرجوع لأقرب قاموس فيفهم، بدلاً من الإصرار الأجوف ودعوى القدرة على تعريب المصطلحات العلمية والفلسفية والتي تبدو لي برمتها مضحكة. ثالث هؤلاء هو د. إمام عبدالفتاح إمام الذي أرجو أن يكون على قيد الحياة متمتعاً بثوب الصحة والعافية، إذ هو من سخّر نفسه ووقته لترجمة وشرح شيخ المثالية المطلقة هيغل وما زال مستمراً في ترجمة أعماله المجموعة في 18 مجلداً، على كبر سنّه. ورابع هؤلاء هو د. عبدالرحمن بدوي بغزارة إنتاجه وجودة كتابيه (الزمان الوجودي) و (دراسات في الفلسفة الوجودية). وخامسهم هو د. زكريا إبراهيم صاحب السلسلة الشهيرة (مشكلات فلسفية) والتي كشف فيها عن علم غزير وعشق للحكمة لا يزول مع الهجر. هناك أسماء أخرى مهمة مثل د. يحيى هويدي وعثمان أمين وعبدالغفور مكاوي ومجاهد عبدالمنعم ومراد وهبة صاحب قاموس المصطلحات الفلسفية. لا شك أنني سأنسى بعضهم، فالنسيان آفة، إلا أنني لن أنسى المرأة المصرية الفيلسوفة، فقد كانت حاضرة بقوة كما في شخص د. عطيات أبو السعود وكتابها (الحصاد الفلسفي للقرن العشرين) و د. أميرة مطر بكتابها الجميل عن فلسفة الجمال. لكل هؤلاء وباسم من تتلمذوا على كتبكم لكم الشكر العميق، وإنني أراه واجباً على دور النشر العربية ألا تضيع جهد هؤلاء العمالقة، وذلك بالعودة إلى ما نفد منها وإعادة طباعته، بدلا من كتب الدروشة والخرافة التي تملأ المكتبة العربية اليوم.