انتهى حديث المقالة السابقة إلى تفريق أساسي بين نوعين من العلاقات التي يوجد من خلالها البشر. العلاقة الأولى: هل العلاقة الاستعمالية مع الأشياء والآخرين. بمعنى أنها العلاقة التي يكون جوهرها وهدفها أن نستعمل الطرف الآخر لغرض محددد. العلاقة مع المحاسب في المحل التجاري مثال على ذلك. العلاقة مع هذا الإنسان تقوم على إنجاز مهمة محددة هي مهمة الدفع والحصول على الفاتورة. هذه العلاقة محدودة جدا بمعنى أنك لا تعرف حقيقة من هو الإنسان الذي أمامك، كل ما تعرفه عنه محدود في عمله كمحاسب، وأنه محاسب ليس إلا جزءا بسيطا من حياة هذا الإنسان.

العلاقة الثانية: هي العلاقة التي يظهر فيها الآخر بشكل أوضح وأوسع، أي العلاقة التي تنقل لك أكبر قدر ممكن من الظهور للطرف الآخر. هذه العلاقة قد تتحقق كتطور للعلاقة الاستعمالية. بمعنى أن العلاقة السابقة مع المحاسب قد تتوسع بحيث تتجاوز علاقة الزبون بالمحاسب إلى علاقة إنسان بإنسان، هذه العلاقة أوسع من عملية البيع والشراء، فهي علاقة مفتوحة من التعرّف والانفتاح والظهور المستمر لأطراف العلاقة. هذه العلاقة يمكن أن نسميها علاقة الحوار. لنتعرف عليها أكثر ربما علينا فقط التأمل في علاقتنا مع ذلك الإنسان الذي نرتاح للجلوس معه والحديث معه. ذلك الإنسان الذي لا نشعر بالتحفّظ معه ولا بالقلق من أحكامه علينا وردود فعله على ما نقول، ذلك الإنسان الذي نثق فيه ونأمن جانبه ونعلم يقينا طهارة قلبه ومشاعره تجاهنا.

سؤالي هنا هو: هل النوع الثاني من العلاقات فقط نتيجة ذلك التوافق الذي لا نعرف سببه بالضبط ونعبّر عنه أحيانا بالتواق الكيميائي؟ أقصد هل هذا النوع هو فقط نتيجة ذلك التوافق العجيب الذي يحدث مصادفة مع آخرين نرتاح لهم من الوهلة الأولى، أم إنه موقف يمكن أن أعمل على تحقيقه بإرادتي؟

هل يمكن أن أعمل بنفسي على الأقل على تجهيز ذاتي لتكون أكثر استعدادا واستقبالا لمثل تلك العلاقات؟ كان هذا السؤال محوريا في حواري الممتد مع أخي مساعد.

شخصيا سأكون محبطا جدا، أن تكون الأمور كلها مرتبطة بتوافق ليس للناس دور في تحقيقه. أي أن يكون الأمر مجرد توافق في التركيبة النفسية هو الذي يجمع الناس ويجعلهم قادرين على الصعود بمستوى علاقاتهم إلى المستوى الإنساني.

الحل المبهج سيكون أن هذه العلاقات يمكن أن نحققها بذواتنا، أن نبحث عنها ونرعاها إذا حصلنا عليها ونتعاهد نموها. ولكن الأمور لا تتم بالتمني فقط، هنا سأقدم تصورا يمكن أن يجعل الأمنية السابقة واقعية وممكنة.

النوع الثاني من العلاقات برأيي لا يتحقق إلا ضمن اشتراطات يمكن أن تتحقق بالتربية. الحوار برأيي لا يتحقق إلا داخل أجواء من المحبة، أي العاطفة الإيجابية تجاه الآخرين، تجاه الناس. الحوار هنا لا أعني به مجرد الحديث المتبادل بين أطراف بقدر ما أعني به شيئا قريبا من الصداقة.

سبق أن تحدثت عن الحوار كضيافة. المضيف الحقيقي لا بد أن يحب ضيوفه، إن لم يفعل فإن ضيافته ستكون ميكانيكة تفتقد المشاعر الحقيقية التي تصل للآخرين. حب الآخرين برأيي ينتج عن تركيبة معقدة من الانفتاح والتسامح. الانفتاح له خصمان عنيدان: الأول هو الانغلاق على الذات أو الاكتفاء بالذات، والثاني هو العيش أدوار العداوة مع آخرين لا نعرفهم. الانغلاق على الذات قد يتحقق بسبب الأنانية أو بحسب الاكتئاب.

الأنانية هنا تعني عجز الفرد عن رؤية الآخرين خارج علاقاته النفعية. أي أنه لا يجد معنى للعلاقات مع الآخرين إذا لم تكن تصب في مصالحه الخاصة. الأناني قادر على الأخذ وعاجز عن العطاء. الانفتاح في لبّه عطاء أو استعداد للعطاء كما للأخذ. ليس من الغريب إذن أن يبقى الأنانيون بلا أصدقاء. العلاقة مع الأناني تُشعر صاحبها بالاستغلال والخداع والظلم. عجز الأناني عن رؤية الآخرين خارج علاقاته الاستعمالية مشكل تربوي عميق، ولكن يمكن الحد منه بالتربية كذلك. بمعنى أنه يمكن أن نربي أنفسنا كما أطفالنا على تجنّب الأنانية. التربية الإيجابية لمثل هذا الهدف يمكن تحقيقها من خلال تحفيز الأطفال على المشاركة والتعاون. أي الدخول مع الآخرين ليس فقط للأخذ بل للعطاء كذلك.

هذا يحتاج أن يشعر الطفل بالأمان بمن حوله والثقة بعدالة الموقف. الأنانية قد تكون ردة فعل على عدم عدالة الواقع، بمعنى أن الأناني قد يؤمن بأن العالم مجرد غابة، وأن هناك دورين لا ثالث لهما: الآكل والمأكول.

التربية على المشاركة يمكن أن تساعد الطفل على أن يسعد لسعادة الآخرين، وهذه قيمة هائلة وعظيمة. القلوب السعيدة هي تلك التي تبتهج ليس فقط لما يتحقق لها، بل لما يتحقق للآخرين كذلك. طفل بهذه القدرة سيكون أسعد كثيرا من الطفل الذي يبتهج بآلام الآخرين، ولا يعرف طريقا للبهجة إلا طريقه الصغير جدا.

بتربية الأطفال على المشاركة والتعاون، فإننا نقاوم فيهم نوازع الأنانية، ونعطيهم فرصة أكبر للانفتاح، وبالتالي الدخول في علاقات إنسانية مع الآخرين.

السبب الثاني للانغلاق على الذات هو الاكتئاب. الانفتاح على الآخرين مغامرة تحتاج إلى أمل. المكتئب لا يملك هذا الأمل. الانفتاح على الآخرين قد يكون مغامرة فاشلة ومؤذية، ولذا فالمكتئب يستبعدها من خياراته. شخصيا أعتقد أن الاكتئاب مرض عضوي، ويحتاج تدخلا طبيا، لكن تربية الأطفال على حب الحياة والانطلاق، وتربيتهم بالأمثلة الحية على أننا نستطيع أن نجعل الحياة أجمل بابتسامة، بعمل فني، بطرفة، بتأمل، برسم مستقبل مشرق يمكن أن تدفعهم بالاتجاه المعاكس للاكتئاب أو التشاؤم.

كل الحديث السابق عن الأطفال صالح برأيي لنا ككبار. قد يكون أصعب، ولكنه ليس مستحيلا. في المقالات القادمة نستكمل الحديث عن الانفتاح والتسامح وعوائقهما.