تأبى السياسة في بلداننا العربية أن تكون شيئاً محدداً أو مجالاً محورياً مؤثراً على حقول الحياة الأخرى ومستنداً إليها كلما استدعت الحاجة دور متخذي القرار السياسي لتحديد الأفضليات وحشدها في إدارة مصالح المجتمع والدولة، وتدبر وتوجيه علاقتهما الحيوية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
حدث شيء من هذا في سبعينات القرن الماضي عندما راجت على الساحة العربية موضة (الطبيب العام) بوصفته الواحدة وإن تعددت الأعراض واختلفت أسباب الشكوى.. أما وقد أمهلتنا الأعمار حتى العقد الأول من القرن الجديد فلنشاهد انتقال الموضة من الطب إلى السياسة ودوائر اتخاذ القرار السياسي.
ومع جلاء النتائج الكارثية لأنماط السياسة والطب العام لا تبدو نظم الحكم قادرة على فهم دواعي تغيير تلك الأنماط، وإعادة النظر في تطبيقاتها المترفة ولو على سبيل الحرج من شماتة الأعداء.
لست أدري إن كان لهذا الأمر علاقة بطبائع عربية متوارثة أم أن ما تبرزه تصوراتنا النظرية من سلبيات وأوجه قصور يمثل في قناعة متخذي القرار نهجا مدروسا وحكمة سائدة.
أميل إلى اعتبار السياسة في اليمن ودول الجوار فن المحزن وليس الممكن، وإلا فلماذا تتقاطع أداءاتنا السياسية مع المنطق ولماذا يختارها ولاة الأمر طريقا مستقلاً بنفسه عن معارف الحياة وعلومها المتشعبة من الفلسفة إلى التاريخ والفكر وقواعد الهندسة وطرائق العلوم الإنسانية المهيأة لأغراض التدبّر وتأمين حاجات متخذ القرار من الوسائل والبدائل الكفيلة بتنويع خياراته والحؤول دون وصوله إلى مفترق طرق بين لا ونعم، وأقرب شاهد معاينتنا هذا اللون من التقاطع على صعيد الحالة اليمنية في ظل المبادرة الخليجية التي اقتصرت خياراتها السياسية على محوري مع وضد.
قلنا منذ البدايات الأولى للتسوية إن خطأ ما يتعين الالتفات إليه والمسارعة إلى تداركه ولم يكن ثمة وسيلة متاحة أمام الرأي يفوق انفتاح صحيفة "الوطن" إذ تتعاطى مع وجهة النظر من منطلق الحرص والمسؤولية فأوسعناها طرقاً وطرحاً لعل أحداً يتطوع أو مستشاراً يجتهد بلفت الانتباه لكن دون جدوى، فيما تسارعت وتائر التهديد واتسع الخرق لتصل أوضاع البلاد إلى ما هي عليه من مخاطر لا يقتصر مردودها السلبي على معايش الشعب اليمني واستقراره، ولكنها تتجاوز ذلك إلى تقويض العملية السياسية وتهديد الأمن القومي الإقليمي وتعكير السلم والاستقرار الدوليين.
والحق – وهو غالباً لا يقال وإذا قيل لا يُسمع وإذا سُمع تتنكبه الحكومات بالتجاهل والهزء – الحق أن متخذي القرار في دول المبادرة الخليجية دفعوا بالدور السياسي نحو عيادة الطبيب العام واختزلوا اليمن على مكونات النظام السابق بتداخلاته الانقسامية وعلى طرفي صراع ملتبس، ظل أحدهما في موقع المدافع عن السلطة وتسلل الآخر إلى الميادين الشعبية بهدف احتواء الجماهير، ووقف مطالب التغيير عند مستوى الأمان المشترك لوجهي العملة القديمة مقابل تقاسم السلطة بينهما وضمان استدامة حكم اليمن بالأزمات!
أما كيف أمكن تسويق هذا السيناريو إلى الشعب فلم يكن ثمة بديل غير الاتفاق – حسب اعتراف أطراف الصراع – على كتابة الوصفة السحرية في صنعاء واللجوء إلى عيادة الطبيب العام الخليجي واستثمار مخاوفه الموضوعية من انزلاق اليمن نحو الفوضى ليمهر الوصفة بتوقيعه ويصبغ عليها تأثيره المادي والمعنوي دون دراسة أو حتى محاولة أولية لتشخيص الوضع وبحث الأعراض الجانبية المحتملة جراء معالجة كهذه، ولا حتى التحقق من سلامة نوايا طرفي التسوية كلٌّ تجاه الآخر.
كيف نفهم تلكؤ الرئيس السابق عن توقيع المبادرة الخليجية المكتوبة بأحبار خبرته في صناعة المطبات الناعمة وعلى أي نحو تعاطى الطبيب العام مع جريمة الغدر التي استهدفت صالح ومعظم رموز السلطة فيما توقيعات خصومه طازجة الحضور وحبرها لم يجف بعد؟ بل كيف استحضر الأشقاء صورة اليمن المستقر بالاعتماد على طرفي ختل تناوبا على النكث والغدر؟
وإذا كانت المنظومة الخليجية فرزت في ثناياها بعض السياسات والمواقف التي قرأت الشبهات الإخوانية في ثورات الربيع فإن رصانة دول المبادرة وعزوفها عن تحديث رؤيتها التقليدية تجاه اليمن أفقدها عنصر المبادءة وعطل ملكات الاستشعار الخليجي المبكر بمآلات الوضع وتطوراته المؤسفة، لدرجة أن تغدو إيران مؤثرا رئيساً في تفاعلات الصراع ومركز تحكم مباشر بترمومتر الحصار المضروب حول العاصمة اليمنية صنعاء، على حين خفوت تأثير المبادرين وغياب دور عاصمتي القرار العربي القاهرة والرياض؟
كيمنيين لا نطلب من الأشقاء تغيير طرائقهم ولا نحبذ توريطهم في شؤون بلد أدركته عاهات التخلف لكنهم ارتضوا القيام بدور المبادر، وهو دور تستتبعه مسؤولية قومية وإسلامية وأخلاقية في المقام الأول، والأحرى بهم إغلاق عيادة الطبيب العام واجتراح (مارشال إنقاذ) متكامل يعالج جذر المعضلة اليمنية ولا يقتصر على إطفاء الحرائق الآنية.. لأن السلام على مؤذن مالطا أدعى من الوقوف مكانه!