مخطئ من يعتقد أن "داعش" مجرد تنظيم إرهابي يقطع رؤوس البشر بوحشية، ويتباهى بأبشع الممارسات في المناطق التي سيطر عليها بالعراق وسورية، لكنه "كيان شيطاني" زرعته أيادٍ سبق وزرعت "القاعدة"، بعدما انتهت مهمتها، ودرست أخطاءها لتتحاشاها ليكون المُنتج الجديد أداتها لإثارة الحروب الأهلية والنعرات الطائفية لإشاعة الفوضى في المنطقة، لتبرير التدخل بشؤونها سياسيا وعسكريا، بزعم حماية الأقليات ومكافحة الإرهاب.
ولأول مرة منذ قرون نشاهد أسواقاً للرقيق أسسها "داعش" لعرض النساء للبيع، باعتبارهن "سبايا"، اختطفهن عناصره من الإيزيديات والمسيحيات وحتى المسلمات المخالفات لممارساته، وصولاً للمراهقات الغربيات، وهناك تقارير لصحف دولية مرموقة حققت وقائع عن أوروبيات سافرن إلى سورية للانضمام للدواعش، منهن فتاتان من النمسا، وبعدهما تسللت مراهقتان بريطانيتان توأمان لا يتجاوز عمراهما 16 عاما وسافرتا إلى سورية لتتزوجا عضوين في "داعش" واتصلتا هاتفيا بأسرتهما لتقولا إنهما وصلتا إلى المكان الصحيح، وأكدتا عدم العودة.
وفي يوليو الماضي اعتقل مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي الممرضة دنفر شانون، البالغة من العمر 19 عاما، والتي اعتنقت الإسلام، بينما كانت تتأهب للسفر إلى تركيا، تمهيدا للوصول إلى سورية، وقالت إنها تعرفت عبر الإنترنت على تونسي يقاتل بصفوف "داعش"، ويفسر الأخصائيون النفسيون ظاهرة إعجاب المراهقات الغربيات بالدواعش، بأنهن يرين هؤلاء "الإرهابيين" أنموذجا للرجولة المكتملة، بعدما صارت الرومانسية "بضاعة راكدة" بمخيلة الجيل الرابع للحروب التي تبثها الفضائيات كمباريات كرة القدم.
الأمر لم يقتصر على الغربيات وحدهن بالطبع، فهناك عربيات، ومنهن مثلاً "أم المقداد" والشهيرة بلقب "أميرة نساء داعش" وتنتمي لإحدى دول الخليج، وتبلغ من العمر 45 عاما، وهي مسؤولة تجنيد النساء، وفي تقرير لمجلة "فورين أفيرز"، بعنوان "نساء داعش"، اعتبرت أنه لفهم دوافع مشاركة النساء في صفوف التنظيم ينبغي العودة لدور النساء التاريخي في السلفادور وإريتريا والنيبال وسيريلانكا، حيث تطوعت النساء للقتال في ميليشيات مسلحة، وفي هذه الحالات فالأسباب التي دفعت النساء للانضمام لتلك الحركات، هي ذاتها التي دفعت الرجال، لمواجهة المخاطر السياسية والدينية والعرقية التي يتعرضن لها بمجتمعاتهن.
سيتفق غالبية المسلمين على حقيقة مؤداها أن ممارسات الدواعش إجرام لا تقره الشريعة ولا تستسيغه الفطرة السليمة، فهي "هوس ديني" يغترف بانتقائية من بطون الكتب ما يبرر سلوكهم الوحشي، ويقابله "هوس جنسي" يتمثل بالسبايا و"نكاح الجهاد"، وهو ما يسميه علماء الاجتماع السياسي "الظاهرة الراسبوتينية"، نسبة للراهب الروسي الفاحش راسبوتين الذي تحكم في إمبراطورة روسيا بمزيج من الممارسات الجنسية والدينية.
أما الكارثة الحقيقية فتبدأ حين تتقعر النخبة السياسية والثقافية والدينية بمزاعم سمجة لمواجهة الإرهاب، كالقول مثلا إن الحل الأمني وحده لا يكفي للقضاء على الإرهاب، بل تنبغي معالجة أزمات سورية وليبيا والعراق وغيرها عبر التوعية والتفاوض، وهذا طرح مثير للاشمئزاز، فمن المستحيل أن تفاوض الدول إرهابيين وقتلة، فقبول ذلك إهانة للدولة تماما كتفاوض الشرطة مع العصابات الإجرامية والإرهابية، فكلاهما يستأسد على القانون والنظام، وبالتالي فحوارهم "ثرثرة فارغة" لا جدوى منها، فقد علمتنا مواجهة موجة الإرهاب في مصر خلال تسعينات القرن الماضي أن حسم المعركة على الأرض أمر حتمي، وبعده سيكون لكل حادث حديث.
ولعل أسوأ وسائل التصدي للإرهاب تبريره، والمزايدة عليه، فالفقر لا يبرر السرقة، والمزايدة ستقودنا للأسوأ، والقراءة النفسية والسياسية للدواعش أنها نتيجة طبيعية لانتشار "ثقافة الكراهية" التي رضعناها بمناهجنا المدرسية وتحريض بعض الدعاة المتطرفين، وتُخبرنا حكمة التاريخ أن المهلب ابن أبي صفرة لم يفاوض الخوارج، لكنه لاحقهم وشتت شملهم، و"خوارج العصر" بحاجة لاستلهام شجاعة المهلب، وربما قسوة الحجاج.
سياسيا ستقرأ كثيرا عمن صنعهم ومولهم، لتجد نفسك أمام لغز كبير، والحاصل أن "داعش" هي إعادة إنتاج "القاعدة" بمنطقتنا، وها هي دورة تاريخية جديدة تفرز "القاعدة 2014" بمسميات شتى، أبرزها "داعش".. لهذا فالأزمة تقتضي أن تكون المواجهة بأيادينا، حتى لا تكون بأيادي الغرباء الذين برعت أجهزة استخباراتهم في صناعة الفزاعات، من أبنائنا وبأموالنا لتنفذ أهدافهم، وبعدها ينقضون عليها بأموالنا ودماء أبنائنا أيضا، وهكذا يعيد التاريخ نفسه دون أن نتعلم أبسط دروسه.