نسمع كثيرا من الخطب والمواعظ التي تُردّد أحاديث الفتن، وكثيرا ما يتم إيراد مثل حديث السفينة المشهور حول أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمعات الإسلامية، ولا شك في أهميته، ولكن عندما يأتي ذكر لمشاركة المرأة هنا أو هناك؛ فإن السفينة تلك قد تسقط بالمجتمع والبلد للهاوية! وعندما يُفتح الباب لوظيفة المرأة الباحثة عن لقمة العيش؛ فإن تلك السفينة قد تغرق أيضا!

لا أشك في صدق نيّة الكثير مِمَن يُردد مثل هذه الأفكار ويبالغ فيها، ووجودهم بيننا مهم وضروري لأجل التوازن في التغير المجتمعي السريع، إلا أنني في هذا المقال؛ أود أن أشرح بنيّة صادقة وخوف غائر على هذا البلد ودينه وتوازنه، وإن شئتم سميتها بنفس الطريقة في تطويع المصطلحات الشرعية "قبل أن تغرق سفينة البلد".

في مطلع هذا القرن ومع بدايات نشوء ما يُسمى بـ"الصحوة"؛ تكوّنت الكثير من الأفكار التي يجمع بينها روابط يمكن تحديدها بشكل واضح، لتُشكّل فكرا متشابها، ومن ثمّ أصبح كالمذهب الفقهي وربما العَقَدي، الذي يُدخل أناسا ويُخرج آخرين، وبدأ التعصب حوله بدرجات متفاوتة، قد تصل إلى التكفير في بعض حالاتها، بالرغم من أن كثيرا من تلك الأفكار ما هي إلا مسائل خلافية اجتهادية، قال بها بعض علماء الأمة وربما حتى جمهور فقهائها!

عندما تقف باستقلال وتتساءل عن منهج يُضخم مسائل الخلاف والاجتهاد ويوالي ويعادي عليها، كيف له أن يمتلك القدرة على قيادة الأمة وجمع الناس حوله؟ ولذلك؛ ها نحن نعاني من بعض آثار هذه الأفكار في سورية والعراق بشكل لا يمكن تخيّله!

لماذا لا نحاول إعادة رسم خارطة أفكارنا وجهودنا نحو مشاكلنا الحقيقية التي قد تؤدي فعلا إلى غرق السفينة؟

ماذا عن قيمة العدل المجتمعي التي تحتاج إلى الكثير من الجهود لمعالجتها؟ أين خطب المنابر الملتهبة عن بعض القضايا الشائكة؟ الحقيقة أن نصرة المظلوم تكلفتها عالية جدا، ولكنها ليست كما يفهمها البعض بمسارها التقليدي القديم وحسب، بل من نصرة المظلوم اليوم أمام الكثير الذين تسرّبت فيهم عادات قديمة مخالفة في صلبها لمبادئ ومقاصد عامة في الشريعة، وليست مخالفة فقط لبعض النصوص المُفردة!

لماذا لا نحارب تلك العادات التي تمنع الضعيف من يتيم وصغير وامرأة من أخذ حقهم المهضوم من وليّهم أو أخيهم أو حتى أبيهم ومعاقبة كل من يقوم بذلك؟ لماذا يحاول البعض إجبار وإكراه المرأة على الولي في الكثير من معاملاتها، وهو يعلم قطعا أنها ستؤدي إلى مثل هذه المظالم وما أكثرها في مجتمعنا؟ كم من امرأة منعها زوجها أو أخوها من الوظيفة أو الدراسة، ثم ما لبثت معه سنوات حتى وطلقها ورماها لتقاسي أَلَمَ الفقر وتجرّع مرارة استشفاق أقاربها ليفتحوا لها بيوتهم المُكرَهة عليها!

من أين لهم بدليل واحد يأمر بذلك؟ وما أكثر الأدلة التي تعارض مثل هذه الممارسات التي تحدّ من حق الحرية الأساسي للحياة كإنسان يملك قراره بيده ذكراً أو أنثى!

ما شعورك أيها القوي وأنت تنفخ في نار الغيرة واستنهاض مآثر العروبة والقبلية حتى ضد حقوق ضعفاء بني الإنسان هؤلاء!

ما أكثر النصوص التي تشدد في تحريم الحلال على الناس، ولست في صدد ذكرها وشرحها، تلك النصوص التي تأمر بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، والتي جعلت قيمة العدل بكل معانيه من عدالة واعتدال ووسطية وانتصار للمظلوم من أهم قواعد ومقاصد الشريعة العامة، ومن أسوأ ما نُعاني منه اليوم طغيان فكرة الذريعة والمحظور على "الحق" المباح، وعندما أستخدم مصطلح "الحق" فإني أعني به ذلك الحق الإنساني الذي لا تستقيم الحياة والإنسانية إلا به، ولولا حالة الترف التي نعيشها لما أمكن تغطية ذلك التشديد في الحقوق الإنسانية إطلاقا، حيث تتم تغطية ذلك النقص في الحقوق باستخدام المال وربما الكرامة لأجل البحث واستشفاق مَن يقوم بواجبات المرأة من سائق أو وكيل وغيره.

أذكر قصة من بين آلاف القصص المأساوية لتلك المظالم المندسّة خلف أسوار الكثير من البيوت؛ أختان مات عنهما أبوهما منذ قرابة العشرين سنة، لا يعرفان حتى ماذا ورّث لهما أبوهما، وأخوهما يحبسهما خلف قضبان البيت، ويُكرههما على عمل توكيل مفتوح له ليعبث بأموالهما، ويمنعهما من الزواج كونه وليّهما! وغيرهما من يأخذ رواتب أخته أو زوجته الموظفة! نعم هذا لا يرضاه الناس، ولكنه يحصل في الكثير من البيوت، ويتم الاعتداء حتى على إنسانية وحقوق هاتين وغيرهما باستمرار، ويعشن في حياة أسوأ من العبودية في القرون الوسطى، حتى قرار زيارة الأقارب لا تمتلكه! بينما ليست مثل هذه المآسي من اهتمامات الكثير من الخطب ولا من أيديولوجيات الأحزاب والتيارات! والمشكلة أن الموجود هو الضخ فقط في المزيد من المطالبة بتسليط القوي على الضعيف شئنا أم أبينا، وبالمزيد من سحب حقوق المرأة في العمل والتنقل والحرية المباحة بحجة محاربة الانفتاح أو الاختلاط وغيرهما.

لا شك أن الله قد وضع حدودا في العلاقات وسن الشرائع، ولكن في نفس الوقت؛ فإن من طبيعة البشر الخطأ والنسيان، وليس علينا هدى الناس أجمعين، ولم يأمر بالتنقيب في قلوب الناس وأفعالهم الشخصية لننكرها أو نعاقب عليها، ولا بافتراض وقوع المحرم في كل شيء، ولا يبيح وجود المنكر التوسع في تحريم المباحات والحقوق الأساسية والحرية التي وهبها الله للإنسان.

إذا كان مرّ على الأمة في القرن الماضي موجات علمانية محاربة للدين؛ فإن المستقبل قد يُنذر بموجات الإلحاد العاتية التي لا تؤمن بالدين ولا بالله تعالى، طالما تركنا تلك الأفكار تتوسع وتتضخم، وكم من العلماء والفضلاء من يحارب تلك الأفكار سرا، ولكنه يسكت ليس إلا لأنه غير مستعد لدفع ضريبة نصرة المظلوم والحق في ظل تسلط الألسنة والسفهاء، وسيضيع البلد والدين والناس ومعهم سفهاؤهم أيضا.