في أبها تبصر العناق المترامي بين اخضرار الشجرة ووجنات الصخرة في الفضاء المفتوح، في أبها لا تموت أناشيد الحقول، ولا تصمت شبابة الراعي، تفتح نوافذها في الصباحات كي تسمح بعبور الشمس والريح والجمال، في الليل تغسل جسدها تحت نافورة الغيوم فتصبح دافئة كالحياة، عذبة كأجنحة الطيور وهديل الحمام، تشتعل القصائد الوهاجة تحت حجارتها كتمتمة الأفلاك وارتجاف المسارج وحفيف الأحلام الوثيرة، ينام في رئتيها عبير الأرض ومشاعل الفجر، وتكتحل شرفاتها بالبروق وهالات الدهشة الطافحة بالعطر والشعر والأسرار الباذخة. يقول الراحل الكبير "تركي العصيمي": ألا إن "أبها" منبع السحر والهوى.. فغني ورائي يا قلوب ورددي - لقد خصها الباري بحسن طبيعة.. فليس عليها للحضارة من يدِ- فيا قلمي صفها ويا شعر قل لها-.. ويا ليل بلغها ويا أنجم اشهدي-، ولذا فلا يلام سكانها الجبليون حين يدونون فرط عشقهم، ودفء تعلقهم وانخطافهم بكل ما فيها من عروش السحر واستطالة المباهج ومكامن الفرح الصافي.. أحس أن ضلوعهم تنحني كقوس الربابة، وهم يسفحون محابرهم المنقوعة بالشوق والحب والذكريات العذبة، ولما يعتمر أفئدتهم من طيوب الروح وترانيم البوح ورسائل النفوس الوضيئة.. أمامي عدد من الإصدارات في جوفها تستيقظ "أبها" بكل كائناتها ومخلوقاتها، كما يستيقظ حداء المغنين في ليل الجبال.. ذكريات لامعة مفعمة بالمشاهد واللقطات العصية على النسيان والإمحاء والتلاشي، كم جادت مخيلاتهم بذلك التدفق الجمالي الملحاح، والاستغراق في التفاصيل والمنعطفات والمحطات والمخزونات غير العابرة. يقول عبدالرحمن أبوملحة بعد إصداره "اقلب ويهك" و"موجان" من سلسلة الماضي الجميل عن أبها "الذاكرة تتلذذ بحلاوة الماضي، وتدفعني دفعاً للتنقيب عن تلك المشاهد الرائعة والمدهشة والتي من المستحيل تكرارها، أضعها أمام القارئ الكريم دون رتوش وبلغة بسيطة صافية كبساطة أهلها، سأظل أنقش هذه الصور البديعة لكم أيها الشباب والشابات، لتعرفوا كم كانت الأرض جميلة بجمال رجالها ونسائها". ويقول عبدالله شاهر في كتابه "شفت أبها": "من هنا وجدت ذاكرتي تأخذني إلى كل حي وكل شارع، أعبر منها إلى بيوتهم وبساتينهم ومحلاتهم، تلك حياتنا في "أبها البهية" يأخذنا الفرح إلى قمم الجبال ويصعد بنا إلى ملامسة السحاب، ونختلط ببعضنا إلى حد الجسد الواحد في أفراحنا وأحزاننا". "ويقول عبدالخالق الحفظي في كتابه "أبها في ذاكرة عاشق": "إنها مجرد خواطر وانطباعات عن حقبة رائعة عايشتها في الطفولة وبواكير الشباب في "أبها" ذلك الماضي الذي تميز بالبساطة وحفل بالحب والصفاء والتواصل والصبر، والتكيف مع الظروف في قناعة وراحة بال"، حقاً إن "أبها" سيدة نحبها وتحبنا.