من ذا الذي يقلل من شأن الفلسفة والفلاسفة، والفكر والمفكرين، والفن والفنانين؟! فهم من يصنعون شوارع بلادهم إن جاز التعبير، ومجتمعات العالم أجمع، وهم في أماكنهم لا يحركون سوى رؤوس أقلامهم.

يفكرون ويبدعون ويكتبون؛ فنرى العالم يتحرك من حولهم وكأنهم دوامة في وسط محيط!

إن كل ما يطرأ على الساحة العالمية والعربية والمحلية، ما هو إلا من صنع الفلاسفة الذين يهندسون نظرياتهم ثم يلقونها في المحيطات وفي مجرى الأنهار؛ فنعب منها دون هوادة! ودون أن نعلم أننا نملأ جوفنا بكل ذلك السائل السحري الذي ينساب في عروقنا! ونرى ما أحدثته فلسفة ما بعد الحداثة من تغييرات في هذا العالم الذي ربما كان مستكينا في الماضي القريب.

ولن نتناول فلسفة ما بعد الحداثة ومداراتها لأن هذا المقال لا يتسع لذلك وإنما نستطيع القول إن كل فكر فلسفي يمتصه العالم فيؤثر ويتأثر دونما يقبل أو يرفض أو يعتنق، وإنما تموج العقول ويترنح الوجدان لتغييرات فكرية تتسرب مع الماء والهواء، ولا نرى فلاسفة في عالمنا هذا لينتجوا ما هو مضاد Anti أو مصحح أو حتى مجادل أو حتى رافض، لأننا حينما نذكر كلمة فلسفة تسبقها كلمة (والعياذ بالله) ولذا أصبح وعي شبابنا يحمل كلمة (صنع في الخارج).

سنتناول ما طرحه "جان جاك روسو" 1712-1778 في نظريته (قوة الأهواء) وما هو أثرها آنذك؟! لقد غير "روسو" مسار الفكر من العاطفة إلى العقل في عصره، حين كانت الرومانسية في أوجها والتي تعتمد على العاطفة؛ وبالتالي ظهرت المدارس التي تعمل العقل بعد "روسو". فالمدرسة الفكرية تنضح بالأدب وبالفن ومنهما إلى التغيير التام في سلوك البشر، وهنا تكمن الخطورة. إن فلسفة "روسو" هي من غيرت العالم، وهي التي ساعدت على تشكيل الأحداث السياسية التي أدت إلى الثورة الفرنسية دونما أن يدعو هو لأي ثورة؛ وإنما أثرت في التعليم والأدب والسياسة بمسار فكري جديد!

وقد اهتم "روسو" بالمسرح لأنه يرى فيه ميكنة صناعة الوعي وبلورة العقل. فكتب إلى صديقه "دالومبير في خطاب له يقول: "عليه بدعم الطابع القومي، وزيادة الميول الطبيعية وإعطاء كل الأهواء قوة جديدة". ثم في رسالة أخرى نجده يشن هجوما شرسا على استخدام العواطف، ويدعو إلى قوة العقل وإلى الاعتدال.

تقول أوديت أصلان: "كان روسو كغيره من صناع عصر النهضة يحرص على الفضائل، وينبذ الرذائل، ثم يشن هجومه على استخدام العاطفة – خاصة في الأدب والمسرح - وأسماها (الأهواء) ثم يقول - أي روسو -: "إن العقل وحده هو الأداة التي يجب أن يستخدم"، وربما يرى أن العقل هو أداة للتطهير وتفريغ شحنة الانفعالات الزائدة عند الإنسان خاصة إذا كان يتلقى عملا أدبيا أو فنياً. ولكن روسو لم يثبت على موقفه هذا طويلاً، حيث استثنى المسرح من هذه القاعدة. فبما أنه يرى أن العقل هو أداة للتطهير، فالعقل لا أثر له في المسرح! وكلمة جنون المسرح لا تعني مرضا عضالا كما في المفهوم الدارج، وإنما تعني ذلك الانفلات من أغلال الواقع السخيف، والانطلاق إلى الآفاق الرحبة دون هوادة، وبذلك نجد أن "روسو" من أنصار الغياب في الإبداع، وإن صرح هو بعكس ذلك.

أما عن الأخلاق فنجد أن "روسو" يحث على الأخلاق وإظهار الفضائل ونبذ الرذائل. وبذلك استطاع "روسو" تغيير المسار الفكري في عصر النهضة حتى إنه خفف الحب في ذلك العصر والذي كانت المشاعر ملتهبة بما فعلته بهم الرومانسية وفلسفتها! فيقول غيرتورد هيمفارب في كتابه الطريق إلى الحداثة: "لقد أعطى لهذه الفكرة دوراً غامضا في المجتمع، فخلافاً للبريطانيين، الذين كانت الشفقة في كتاب روسو "مقال عن أصل التفاوت" عاطفة طبيعية فقط، حيث إنها أسهمت في المحافظة على النوع بتخفيف قوة حب الذات"!

ولسنا مع أفكاره أو ضدها بقدر ما نكتب كيف تكون صناعة الوعي الجمعي، ومن هو المحرك الفكري وراء صناعة الحدث فيما بعد، فصناعة الوعي من أهم دعائم الدولة واستقرارها، لأنها معمل كيمياء يغير الكيمياء البشرية إن جاز التعبير! ولذلك يقول فردريك معتوق في كتابه "تطور علم اجتماع" عن "روسو" وصديقه دالومبير: "جعلوا تصورهم الاجتماعي موجودا على الأرض ومعتدا رسميا من قبل الدولة؛ فبدل أن يتمحور التفكير والإجراء التنفيذي حول علاقة الإنسان بالعالم، أصبح مطلوبا من التفكير أن يتمحور حول علاقة البشر فيما بينهم وعلاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة المواطن بالدولة". هكذا يصنع المفكرون والمبدعون والفلاسفة وجدان الشعوب، وهكذا يقَّلبون تفكيرهم حسبما يتراءى لهم وكيفما أرادوا! ومن هنا يتم تغيير العالم!

مسكين شبابنا، يتعاطى الأفكار الوافدة كحبات "الأنتي بيوتك" كل يوم، ولا يعلم أن هناك سيولا من الأفكار تجري بين قدميه. من هو المنوط بصناعة الوعي، وقدح قبس المعرفة، وتعليم الفرد منا في ألا يتعاطى حبات ملونة دون التفكر والشك والتمحيص ثم اتخاذ القرار بما يمكن من قوة الإرادة والذود عن أفكاره التي اقتنع بها. وهو ما يسمى في علوم التلقي بـ(التفكير الناقد).

ها نحن نرى كل ألوان الطيف في أبنائنا! مرة مجاهدين، ومرة داعشيين، ومرة تحررين مناضلين، ومرة مهووسين بالفضاءات الإلكترونية! دونما يعلم أنه يُصنَّع بآلة غربية غريبة قد لا يحب أن يجد نفسه فيها! فهل من صانع لآلة الوعي والمعرفة؟!