قبل البدء، هذا ليس ردا على تلك الاعتراضات الواردة تجاه حديثي السابق، حين قلت إن هيبة القرآن في نفوس أغلب المسلمين اليوم هي هيبة شكلية فقط، هذا ليس ردا، رغم أن كل اعتراض له كامل التقدير، إنما هي ملاحظات ساقتني إليها تلك الاعتراضات، مجرد ملاحظات تحتمل الخطأ أكثر مما تحتمل الصواب، وكلنا ذلك الخطّاء.
يقول تعالى مُخبرا عن نبيه -عليه الصلاة والسلام- (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، في الآية الكريمة فعلان متضادان "الأخذ" و"الهجر" مصدرهما فاعل واحد "قوم النبي"، لفعل الأخذ دلالات عديدة منها "سلب العقل والفؤاد، الانبهار، التمسك بالشيء"، ومن يقول إن المسلمين اليوم غير متمسكين أو مبهورين بالقرآن فهو يُكذب الواقع، ففي الواقع لا تكاد تخلو منطقة في كل بلاد الإسلام من حلقات تحفيظ وتجويد وتلاوة وحفظ كتاب الله، بالإضافة إلى كل أولئك الأفراد المعنيين بسبر آيات القرآن لاستنباط مكامن الإعجاز فيها، كل هذا وأكثر يدخل ضمن فعل "الأخذ" الوارد في الآية، والأخذ بهذه الطريقة لا بد وأن يزرع في نفوس الآخذين كامل التقدير والتوقير والاعتزاز.
رغم كل هذا الأخذ وبدلالة الآية كما سيخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- شاكيا ربه، نجد الفعل "هجر" موجودا بقوة في واقع المسلمين بالتزامن مع الفعل "أخذ"، وإن وجود الفعلين معا رغم التعارض يقودنا إلى أن الملامة في الهجر تقع على أسلوبنا المُتبع في الأخذ، لأن الأخذ بالقرآن حين يكون الغالب عليه هو الحفظ والتجويد والتلاوة يصبح حينها أخذا شكليا، حينها مهما حفظنا ورتلنا لن نغدوا قرآنيين، ومهما تحرينا الحلال والحرام فهذا لا يعني أننا نسير على نهج القرآن، إن كل هذا يُعد بمثابة الأخذ الشكلي للقرآن، وهو أخذ مطلوب إلا أنه حين يكون الأخذ المهيمن فهو إذاً أخذ من باب المتعة والاستئناس، وتجميع الحسنات حتى ننال الدرجات العلى، وهي غايات سامية إلا أننا نريد الوصول إليها مروراً عبر واقع منحدر لا نهتم بانحداره.
إن الغالب في تعاملنا مع القرآن أنه تعامل مبني على أمانٍ، أمانٍ بالجنان والحور العين والعسل المصفى، إننا نأخذ بهذا الكتاب هربا من الواقع، لا لتجميل وتحسين هذا الواقع، الذي تشهد به أخلاقنا وسوء حالنا أن هيبة القرآن في نفوسنا هيبة شكلية لا أكثر، إن "القرآن" اليوم يعد سبيلا نتجاوز به مرارة الحاضر لنفوز بجنة الخلد ونعيم لا يزول، وعلى أرض الواقع لا أحد يكترث بالواقع.
المحور الآخر لتحول هيبة القرآن إلى هيبة شكلية يتضح من خلال شروح وتفاسير الآيات، كالآية أعلاه التي أوجد حولها المفسرون كثيراً من الشروح المتضادة المتعارضة، فبين قائل إن "قومي" في الآية تخص قريش، وقائل بأنها تخص المسلمين، وقائل بأنها تحتمل المعنيين، بين قائل بأن "الأخذ والهجر" كل منهما فعل بذاته، وقائل بأن الأخذ فعل والهجر مفعولاً به، وبين قائل بأن الآية تتحدث فقط عن خبر ما كان، وقائل بأنها تحدثت عن خبر ما كان ويكون وسيكون.
إن كل هذا التعارض والتضاد لدى المفسرين دلالة على أن باب التدبر والاستدلال كان مفتوحا على مصراعيه أمام كل من رأى في نفسه القدرة، حين كانت للقرآن هيبة فعلية وكان الاجتهاد جائزا، وفور تحول الهيبة إلى شكلية أغلق باب الاجتهاد، ربما أغلق خوفاً من وقوع أخطاء أو منعاً لأي تعارض محتمل في الآراء، والعجيب أن الذين استطاعوا الولوج إلى الاجتهاد من شيوخ وطلبة العلم لا يجتهدون، إنما يجترون اجتهادات السلف طلباً للسلامة، لا طلبا للحق! وبهذا وعلى الرغم من كثرة المنشغلين بالقرآن نراه مهجورا، لأن شرط الانشغال به اليوم البكاء على الأطلال، مع أن القرآن يحذر من الالتفات إلى الوراء حتى لا تهوي الأقدام.
الأمر الرئيس الذي يصادف الباحث في هذا الأمر، هو التحول في التماس الهدي من غير القرآن في أحايين كثيرة، إنها دائرة تاريخية تتكرر ونحن ندور فيها مع الدائرين مصداقاً لقوله -عليه الصلاة والسلام- "ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل"، وإن من كان قبلنا (جعلوا القرآن عِضِين) و"عضا الشيء جزأه ثم فرق أجزاءه"، ونحن حذونا حذوهم حين تلبستنا منهجية تعضية الوحي المنتشرة في الأمم السابقة، حيث تُجزأ المعاني والمقاصد خلف النص الصريح إلى أجزاء بعضها حق وبعضها تحكمه ظروف المُجزئ ومصالحه، وهنا تأتي مرحلة تجزأة الأجزاء "عِضِين" للتنقية والتصفية، في الأخير أصبح لكل جزء ومجزئ أتباع وأنصار يُقسمون أنهم للنص الصريح أقرب!
وهكذا حين فشل الشيطان في تحريف القرآن، نجح في تحويل هيبته إلى هيبة شكلية، نجح في ألا يجعله الكتاب المُهيمن رغم تعظيم النفوس له والاعتزاز به، لأن الواقع يقول إن هنالك عشرات وربما مئات الكتب والتفاسير التي تنازع القرآن في الهيمنة على أرض الواقع.