من التاريخ الحديث يمكن أن نستأنس بتجربة أكدت نجاح الابتعاث في التحوّل التنموي وتطوير القدرات الوطنية، وهي تجربة محمد علي باشا في مصر التي لم تكن ذات شأن في العلوم، ولكنه من خلال تلك البعثات التي وجهها إلى أوروبا ليدرس المصريون في معاهدها العلمية، استطاع أن ينتقل بمصر إلى ما أصبحت عليه لاحقا من قلعة علمية وتنموية تضيف إلى أصولها الحضارية الكثير، فحصلت على كثير من الأفندية الذين توزعوا على مختلف العلوم وبرزوا في كثير من المجالات، ولعلّ رفاعة الطهطاوي الذي يعد زعيم نهضة العلم والأدب أبرز أولئك المبتعثين.

ذلك خطر لي ونحن نتابع احتفالية الملحقية الثقافية للمملكة في أستراليا بتخريج 1613 مبتعثا ومبتعثة من الدارسين في الجامعات الأسترالية، في مركز برزبن، والذين يشكلون الدفعة الثالثة من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، تحت رعاية وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري، فتلك الحشود والجموع العلمية تؤكد أننا في مسار علمي منهجي يضيف إلى بلادنا وطاقتها الفكرية الكثير، الذي نطمح إليه من أجل التطور والمواكبة الحضارية التي تصنعها مثل تلك العقول التي تتزود بالعلم والتلاقح الثقافي الضروري للارتقاء وتعزيز أصولنا الحضارية والحضرية.

أولئك المبتعثون غيض من فيض علمي ينتشر في أعرق وأفضل جامعات العالم، من خلال برنامج الابتعاث الذي يعد الحاضنة العلمية الأكثر تطورا لإدارة التطور العلمي الذي نطمح إليه، وهو - بحسب ما ذكره الدكتور العنقري - رافد مهم يثري القطاعين الحكومي والأهلي بالكفاءات المتميزة والمتخصصة من أبناء الوطن وبناته، وليسهم مع برامج التعليم الجامعي داخل المملكة في تأهيل الشباب السعودي تأهيلا عاليا، ليصبحوا خير من يحقق طموحات وطنهم في كل المجالات التي تتسم بالرقي والتقدم التقني العالمي.

تلك الرؤية تتواءم مع فرحة الخريجين وأهاليهم، بل والوطن بنضوج هذه الثلة وتأهيلها من كل النواحي لتكون إضافة في قامة بلادنا وحقوقها في التنمية، وهم في الواقع غرسنا الذي نحصده من أجل المستقبل وتحفيز الأجيال للكسب العلمي والعملي وتلبية الاستحقاقات الحضارية، ويضم البرنامج حاليا 150 ألفا يدرسون في أفضل الجامعات في أكثر من 32 دولة في العالم، ولنا أن نتخيّل نتائج ذلك في المدى القصير على واقعنا الوطني الذي يقوده هؤلاء الشباب بما اكتسبوه من علم وخبرات وانفتاح ثقافي ضروري يعزز أي فكر تنموي ويدفع بالاتجاهات التي ننشدها للتحوّل الاجتماعي المنظم الذي يجد فيه الجميع قدرات ذاتية تستفز كل أحد لينهض بنفسه ومجتمعه ووطنه.

ميكانيزمات التطور تبدأ من هنا، من هؤلاء الشباب والشابات الذين عبروا علميا في أرقى الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، وحين نضيفهم إلى خريجي الجامعات الوطنية فإننا أمام محصلة قادرة على دفع نهضة الوطن وقيادتها وصياغة وعي جديد ومتجدد قائم على أسس علمية كفيلة بتحقيق أي هدف تنموي، فهم استثمار الوطن وثمرته البشرية ومورده الذي اعتنت به الدولة التي خصصت ميزانية لقطاع التعليم بشقيه العام والعالي للعام 1435 بنحو 210 مليارات ريال، تعادل ربع ميزانية الدولة، وتلك قيمة لا يمكن إلا أن نفكر فيها من زاوية واحدة وهي أن هناك تركيزا مهما وأصيلا على مثل هذا النتاج العلمي الذي يفعل الكثير من أجل الوطن وإنسانه.

مثلت احتفالية تخريج مبتعثينا في أستراليا حالة من الذهول بالنسبة لكل من تابعها، ونحن نتماس مع مستقبل بشري مدهش، يؤكد أن فكرنا الوطني ضرب عميقا في التغيير والانتقال بقدرات أبنائنا إلى أفق لا تحده حدود، قد تلتقي المشاعر العاطفية من خلال تلك الفرحة العارمة على الوجوه، بالتفكير العقلي بما سيكون عليه الواقع في مقبل السنوات، ولكننا بالفعل أمام تحديات تتطلب أن يتفوق هؤلاء الشباب وينهلوا من علوم غيرهم لتحقيق قيمة مضافة في المستقبل العلمي والعملي لبلادنا.